أسباب ظهور أزمة الصحة النفسيَّة في الشرق الأوسط

بانوراما 2021/02/06
...

الأسدير السوسي
ترجمة: شيماء ميران
حين نبحث في تاريخ العناية بالصحة النفسية في جميع أنحاء العالم العربي، نكتشف أن الصراع في أجزاء المنطقة قد خلق أزمة متزايدة، ويستذكر طبيب نفسي في لندن الدكتور (صالح ضمد) قصة امرأة عراقية فقدت زوجها خلال فترة العنف الطائفي سبب لها صداعا معوقا، وكان ألمها شديدا بنحو غريب خصوصا وقت غروب الشمس، وتتناول الأدوية المسكنة للآلام منذ سنوات، لكنها لا تجدي نفعا في تخفيف أعراضها، لذلك كانت تتردد على أخصائيي الصحة في العراق.
يقول مدير مجموعة لندن للصحة العقلية (ضمد): “عدنا بالزمن عندما لم تكن تعاني من الصداع، فبعد مقتل زوجها لم تُسلمها المستشفى جثة زوجها لعدة شهور، وعند استلامها الجثة كانت أول مرة تنظر إليه مع وقت الغروب، فأدركنا إنها لم تعد للمستشفى منذ ذلك الوقت”. واعتقدوا أن تأثير ذلك النفسي كان هو سبب مشكلاتها
الصحية.
لقد عمل (ضمد)، الذي ولد في بغداد، كأحد المتطوعين في برنامج المتطوعين الدوليين للأطباء النفسيين للكلية الملكية، وساعد في تأسيس أول برنامج تدريبي لعلاج السلوكي المعرفي في مدينة الطب ببغداد عام 2009. وكانت جزءا من العلاج الذي وصفه للمرأة هي العودة إلى المستشفى، حيث إجتمعت بجثة زوجها. ومن المثير للاهتمام أن الصداع توقف عندها فورا، وأصبح بمقدروها أن تحزن بصورة
صحيحة.
 
مشكلة عالمية
تحمل هذه القصة وغيرها الكثير من القصص المشابهة، لها صدى خاص في المنطقة اليوم والعالم الأوسع على حد سواء، إذ أصبح الحصول على رعاية نفسية موضوعا مثيرا. ويُعد هذا الأمر بالغ الأهمية في العالم العربي، ومع ذلك لا تزال الوصمة الثقافية تحيط بأمراض نفسية كالكآبة والقلق والاضطراب ثنائي القطب موجودة. وقال (علي سلامة): “يتجنبه الناس ولا يتكلمون عنه ويصبون الضغط على الأطفال”، وانشأ (سلامة) مجموعة دعم على (الفيسبوك) في مصر لفتح حوار بين الشباب، ويعتقد أنه المهم بالنسبة للبالغين والأطفال التحدث بصورة أكثر انفتاحا، مضيفا: “إنه سُميّ، والكثير من البالغين لا يدركونه فعلا، لأن العديد من الأطفال يعانون من عدم الحديث مع الكبار المقربين
لهم”.
وبينما يعرض استطلاع الشباب العربي للعام 2019، الذي نُشر الشهر الماضي، أن سكان المنطقة ينفتحون على مسائل الصحة النفسية، أوضح 31 بالمئة من المستطلعة آراؤهم أنهم يعرفون شخصا مصابا بحالة مرضية، لكن آخرين كثيرين لا يزالون يجدونه موضوعا من الصعب نقاشه. وتحدثت (ريم العلي)، وهي من مؤسسي مجموعة (مع الأمل الإماراتية) المختصة بتعزيز الوعي بالصحة النفسية في الإمارات، عن معاناتها لمعالجة المشكلات النفسية وقالت إن: “حتى إخبار الأسرة بأني متطوعة في مستشفى للأمراض العقلية، كان صعبا بالنسبة لي ولبقية أفراد الأسرة أيضا، فأسرنا لا تتقبل الموضوع، بل إن بعضنا يُجبر على الكذب في البداية عن المكان
الذي نذهب إليه”.
 
تاريخ عباسي
في ظروف كهذه، من السهل نسيان إنه منذ قرون مضت كانت منطقة الشرق الأوسط والأقاليم الإسلامية منبعا للابتكارات الطبية، حين كانت خدمات الصحة النفسية جزءا مكملا للمستشفيات لجميع أنحاء العالم الإسلامي. ويوضح أستاذ الكلاسيكيات والدراسات اليونانية العربية في جامعة مانشستر (بيتر بورمان) بأن: “الربط بين العقل والجسم كان قويا لدى مركز الطب الإسلامي في العصور الوسطى. وكانت حالتك العقلية أحد الأشياء الستة غير الطبيعية التي تؤثر في صحتك خارج جسمك”.
وقد تأسست مؤسسات الرعاية الصحية عبر العالم الإسلامي خلال العصور الوسطى، وكانت أكثر تقدما عن أي شيء متاح في أوروبا 
حينها.
مع بداية القرن التاسع، وفي ظل حكم هارون الرشيد الذي امتد نطاق حكمه لما يعرف اليوم بمصر وسوريا والعراق وإيران، تم تأسيس أول مستشفى معروف على يد حاكم مسلم في بغداد، ومع إنشاء المزيد من المستشفيات في بغداد، وانتشار أخريات في القاهرة، أسس الحاكم المسلم لشمال سوريا (نور الدين زنكي) خلال اواسط القرن الثاني عشر مستشفى النوري في دمشق، وأصبحت منارة مرشدة للرعاية الطبية على مستوى المنطقة، وكانت فيها مدرسة كاملة مع مكتبة.
ويصف (برومان)، مؤلف 1001 علاج ومساهمات في الطب والرعاية الصحية المستمدة من الحضارة الإسلامية، مستشفيات القرون الوسطى: “إنها واحدة من القصص الناجحة العظيمة للطب الإسلامي”. وكانت من العلاجات المقدمة في هذه المؤسسات الرائدة الموسيقى ونبتة الظهارة (نبات ينمو على الزعتر) لإضطرابات الصحة النفسية مثل الكآبة وغيرها، لكن العراق وسوريا اليوم مختلفة، فالأول لا يزال يحاول استعادة استقراره بعد الغزو الأميركي، بينما أمضى الآخر ثماني سنوات بقبضة الحرب الأهلية. ومن المفهوم أن الصراع والفوضى السياسية زادت من صعوبة معالجة الاحتياجات الطبية لسكانهما. 
 
المساعدة الخارجيّة
لم تعرف الأجيال العراقية سوى العنف والصراع في وطنها، إذ كشف استطلاع منظمة (أنقذوا الأطفال) في العراق خلال العام 2018 “أن 43 بالمئة من أطفال الموصل قالوا إنهم دائما أو في كثير من الأحيان يشعرون بالحزن”. وحتى الآن، تقع الكثير من المسؤولية لمعالجة هذه التأثيرات العاطفية والنفسية على منظمات غير حكومية مثل أطباء بلا حدود، والتي قدمت الرعاية والدعم لكثير ممن لديهم أمراض نفسية، كالاضطرابات العصبية لما بعد الصدمة والقلق والكآبة وانفصام الشخصية.
كما تم تكليف (ضمد) بمساعدة بلد مسقط رأسه من خلال بناء قدرات المستشارين والمعالجين لمعالجة الضغط العصبي الذي يواجهه العراقيون، ويقول: “إني أعمل مع جامعة بغداد لوضع شهادة دبلوم في العلاج السلوكي المعرفي لأي مهنة صحية لديها تدريب بمجال الصحة النفسية”. ويوصي بهذا لعلاج الكآبة والقلق وتوتر ما بعد الصدمة، ووفقا لاستطلاع الصحة النفسية في العراق للعام 2007 الذي أجرته منظمة الصحة العالمية، والذي يُستشهد به لأنه آخر دراسة موثوقة أجريت عن البلاد، فإنها تُعد من الاضطرابات النفسية الرئيسة. أما سوريا فتبدو بوضع أكثر خطورة من العراق، وبحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فقد حصد الصراع الأهلي حياة مئات الآلاف، وأجبر أكثر من خمسة ملايين سوري على الهجرة. ويؤكد خبراء أن القتال أيضا ترك عددا لا يحصى من السوريين بحاجة للدعم النفسي.
يقول د. زاهر سحلول أخصائي الصدمات الأميركي– السوري: “وفق الحالة السورية، لم تكن الصحة النفسية وعلم النفس متطورين جدا، حتى قبل إندلاع الصراع”، وتقدم مؤسسة (ميد جلوبال) في شيكاغو والتي يرأسها سحلول، المولود في الجزائر، رعاية صحية مجانية للاجئين والمشردين في مناطق الكوارث. كما إنه يسافر بانتظام إلى سوريا لإجراء عمليات جراحية، ويقول: “مع وجود الحرب، يهرب الكثير من علماء وأطباء النفس، فينبغي الاعتماد على الخبرة والمساعدة الخارجية والبعثات الطبية”.
ويبيّن (سحلول)، الذي زار سوريا آخر مرة في العام 2017، أن الأطباء أيضا يعانون من ضغط الصراع: “تسلّمت قبل يومين رسالة من طبيب يعمل ضمن أحد مستشفيات إدلب، لكنه قبلها كان في حلب تحت الحصار وخرج مع النازحين مطلع 2017، قال فيها إنه لم يهنأ بالنوم ليلا منذ ذلك الوقت، ويستيقظ كل ليلة على الكوابيس، وهذا بالضبط هو اضطراب ما بعد الصدمة”.
وحين ذهب (سحلول) مع الرئيس بشار الاسد خلال الثمانينات إلى كلية الطب تأسف على نقص الخدمات في سوريا، ويرى أن المؤسسات الصحية السورية متردية، نتيجة الآثار المرتبطة بتقبل شكاوى الأمراض النفسية بالمقام الأول، مثل بعض الرعاية الصحية المقدمة في أجزاء أخرى من العالم العربي. ويوضح أن عواقب السماح لهذه القنبلة الموقوتة في الرعاية النفسية من دون رادع قد تكون مهلكة: “يمكن أن يصبح العديد من الأطفال مدمنين على المخدرات أو ضمن مجموعات عصابات، كما إنهم يكونون فريسة مثالية للإرهاب نتيجة لما شهدوه، ولدرجة كآبتهم واضطرابهم”.
 
الأمل في المستقبل
وطالما كان أشخاص من أمثال (سحلول) و(ضمد) مستمرين بالتزامهما بتقديم المساعدة في مناطق الصراع في الشرق الأوسط، إذن هناك أمل، كما إنهما يحاولان الاستفادة من المبادرات الكبيرة التي تقدم بأماكن أخرى في المنطقة. ويوضح (سحلول) ان لبنان، مثلا، التي عانت من الحرب الأهلية طيلة 15 عاما تقدم أنموذجا عن مستقبل سوريا، ويقول: “يتمتع لبنان بنظام رعاية صحية مقبول وتم تثقيف شعبه بآثار الصحة النفسية، ويوظفون موارد صحيحة لمعالجة المشكلة، ولديهم موظفون وأطباء وعلماء بمجال الصحة النفسية، وعدد لا يستهان به من علماء النفس المختص بالأطفال”.وتقوم الإمارات أيضا بوضع معيار إقليمي عبر معالجة المخاوف المتزايدة. ففي دبي، حيث تشير الأرقام إلى إن ثلث السكان بحاجة إلى تدخل بمجال الصحة العقلية، والبدء ببرامج مصممة لمساعدة مقدمي الرعاية الأولية في تشخيص الأعراض المبكرة للأمراض النفسية. 
وبينما دول مثل سوريا تعاني من اضطرابات وصراع واضح، فإن أزمة الصحة النفسية تستمر بالظهور. ناهيك عن اليمن وفلسطين وخصوصا غزة إذ كشف تقرير منظمة الصحة العالمية للعام الماضي أن الحصار كان له تأثير هائل على الصحة النفسي لسكانها. وبينما لا تزال تقاليد القرون القديمة للمنطقة الرائدة بمجال الرعاية الصحية فصلا يبعث على الفخر في كتب التاريخ، فإن السلامة العقلية بالمستقبل تعتمد على المبادرات الحديثة التي لا يمكن أن يقدمها اليوم إلا مقدمو الرعاية وصُنّاع السياسة.
 
عن موقع ناشينال