تولوز- لوتريك فنان ملصقات النخبة الباريسية

ثقافة 2019/02/03
...

كاث باوند- بي بي سي الثقافية ترجمة: مي اسماعيل
 

كانت باريس نهاية القرن التاسع عشر تُعرف بمدينة المتعة، وتشتهر بملاهيها وقاعات الرقص. وفي حقبة احتضنت عبادة الفرد؛ اكتشف مديرو المسارح والملاهي سريعا الفوائد الناتجة عن الترويج لأعمال النجوم، مما دفع بالمغنيين والراقصين والممثلين للبحث عن فرص الترقية الفردية. واتجه كثيرون الى وسيلة الاعلان بالملصقات "Poster" الجديدة في حينها، والى رائدها الاكثر موهبة: "هنري دي تولوز- لوتريك" "Henri de Toulouse-Lautrec". فحولت تصاميمه المبتكرة فنانين مثل: "أريستيد برانت" و"جين أفريل" و"إيفيت جيلبرت" الى أسماء تعرفها المدينة بأكملها، ومهدت لولادة ثقافة المشاهير (كما نعرفها اليوم)، وجعلت من الرسام نجما أيضا في ذلك السياق. 
 
نتاج الحياة البوهيميّة
كان لوتريك منجذبا الى الوسط البوهيمي في مونتمارتر كوسيلة للهرب من محيطه المنزلي الخانق؛ إذ جعلته ساقاه المتقزمتان (نتيجة لمرض نادر في العظام) يشعر غالبا أنه غريب. وجد لوتريك أخيرا القبول بين الفنانين والمؤدين؛ فألقى بنفسه في حياة الليل المتفسخة بحماس شديد. وأصبح وجوده دائما في العديد من الملاهي الليلية الرائدة، وهناك كان يجلس ويرسم الفعاليات الفنية المتحركة امامه. وعُرِف عنه من طيبة القلب والوفاء والسحر.. "واكتسب مبكرا سمعة شخص يمكن أن يشرب أي شيء"؛ كما تقول "هانا بركليهيرست" مسؤولة معرض "تولوز- لوتريك وفن المشاهير" بالمعرض الوطني الاسكتلندي. 
تزامن وصوله الى باريس مع واحدة من أكثر الفترات الفنية حماسة في فن الطباعة بالغرب؛ فقد استهل "جول شيريه" (والد فن الملصقات) ثورة في استعمال الالوان حينما جاء بأول طابعة ليثوغراف كبيرة الى باريس. وتبنى الفنانون الطليعيون التقنية الجديدة سريعا؛ مُحدِثين ثورة في عالم الطباعة والاقتناء. وفي نفس الوقت سمح الاسترخاء في قوانين نشر المواد الدعائية بظهور سلالة جديدة من مدراء الترفيه، الذين تبنّوا الشكل الفني الجديد كوسيلة للاعلان؛ وحولوا شوارع باريس لمعرض فني حقيقي. 
 
أصدقاء مؤثرون
جاءت فرصة لوتريك الكبيرة في 1891؛ حينما طلب منه "تشارلز زيدلر" مدير ملهى "الطاحونة الحمراء" الاسطوري أن يصمم له ملصقا. كان "شيريه" قد صمم الملصق الاول للملهى منذ سنتين؛ واستقطب الانتباه (بألوانه الزاهية وأسلوبه اللعوب ونسائه الراقصات)، لكنه لم يعط تميزا لتفرد الممثلين. وضع لوتريك أشهر راقصي الطاحونة الحمراء في مركز الملصق، وقدمهم بشكل اجسام مسطحة ذات أطر سوداء قوية؛ مستوحاة من الرسوم اليابانية. ولخصت اللوحة اللونية الكدرة بأمثل اسلوب تركيبة الانحطاط والبهجة التي يقدمها الملهى. 
مكنت معرفته الشخصية بالراقصين لوتريك لالتقاط جوهر حضورهم ببضعة ضربات بالفرشاة. فظهرت الراقصة "La Goulue" (ومعناها الشرهة؛ مستقى من عادتها لشرب نبيذ الزبائن بسرعة) وهي تدور بتنورتها أثناء رقصة "الكان كان" الشهيرة؛ بينما وقف شريكها "فالنتاين" في مقدمة اللوحة، ليؤدي واحدة من حركاته المأثورة. تقول "بركليهيرست": "في وقت كانت فيه الملصقات تملأ الشوارع؛ سيبرز من بينها الملصق المتفرد. وقالت الروايات المعاصرة في حينها أنه أثار نوعا من عدم الراحة لدى المشاهدين؛ فقد كان من الغرابة بحيث أحبه الناس".. وهذا ما جرى للوحة لوتريك المبتكرة؛ إذ لم يظهر مثلها سابقا.. أُلصقت ثلاثة آلاف نسخة من الملصق في ارجاء باريس؛ فتركت أثرا فوريا وحولت لوتريك الى نجم بين ليلة وضحاها. 
حقق لوتريك سبقا جديدا سنة 1892 في ملصق لملهى "الاريكة اليابانية" (الذي تميز بديكوره الشرقي خلال فترة بقائه القصيرة). وكان التركيز الاساسي فيه على الراقصة "جين أفريل" والناقد الموسيقي "إدوارد دوجاردين" وهما جالسان في الصالة (مما يوحي مباشرة أنّه المكان الذي يمكن العثور عليهما فيه). وفي ابتكار جريء لم يكمل لوتريك رسم رأس الفنانة على المسرح (في عمق اللوحة)؛ عارفا أن قفازاتها السوداء الطويلة ستميزها بأنّها المغنية "إيفيت جيلبرت". وكانت تلك حيلة دقيقة لم تعبر فقط عن قوة تأثير علامتها الشخصية المميزة (القفازات السوداء)؛ بل على قدرة الجمهور في التعرف عليها. تمضي بركليهيرست قائلة: "كانت الغرابة جزءا من جاذبية تلك الملاهي وفنانيها؛ إذ لم يكونوا ذوي أنماط عامة متكررة. وكان لكل منهم شخصيته الخاصة وعلاماتهم المتميزة؛ وهذا ما أحبه الجمهور.. وقد التقط لوتريك هذا المبدأ". بعد وقت قصير طلبت أفريل ملصقها الاول من لوتريك؛ هي التي كانت من كبار نجوم تلك الحقبة ومن ايقونات مونمارتر. أدركت أفريل بحدسها الامكانيات الواسعة للشهرة التي يأتي بها الملصق؛ فبنت علامتها الفنية الخاصة بدأب حول تلك الشهرة. وكتبت لاحقا: "أنا أكثر من متأكدة أنني أدين له بالشهرة التي أتمتع بها، منذ رسم لي أول ملصق". 
صارت أفريل صديقة شخصية قريبة للوتريك؛ ومضيفة حفلات العشاء الشهيرة التي يقيمها. وكان هو طباخا جيدا ومضيفا كريما، يحب الاختلاط بمشاهير العصر. ورغم ادراكه أن بريق الشهرة الذي انهمر عليه مفيد لمهنته وتقدمه الذاتي؛ لكنه أحس باخلاص أنّهم قريبون منه.
 
حرفة ابتكار المشاهير
أحسّ أصدقاء لوتريك فعلا بالتقارب معه.. برزت إيفيت جيلبرت في أعمال لوتريك أكثر من أي فنان آخر؛ فظهرت على صفحات النوطة الموسيقية ونسخ المطبوعات الفردية وكتابين في الطباعة الحجرية. أثار أولهما ضجة؛ إذ لم يسبق أن ظهر كتاب لفنان عن فنانة واحدة. كان البوما محدود الطباعة من مئة نسخة، وقعته ايفيت ولوتريك معا؛ مما جعله أول أمثلة تذكارات المشاهير. 
أما المغني والشاعر "أريستيد برانت" فممن وصف بأنّه.. "يمشي وكأنّه ملصق متحرك!" (كما ترى بركليهيرست). وكانت ملابسه المتميزة (قبعة سوداء، ورداء ووشاح أحمران) تدعو الناس لتقليدها. كادت صورته الايقونية بريشة لوتريك تغيب عن النشر؛ ولم يعجب الملصق ادارة ملهى السفراء؛ إذ اعتبروه يجانب المألوف أكثر من اللازم. فاضطر برانت للتهديد بالامتناع عن الغناء لتغيير رأيهم حول النشر. نشر برانت الملصق في شوارع باريس؛ حتى اشتكى السكان من كثرتها.. مما يثبت أنّ الدعاية لا تعرف حدا أعلى.. 
استمر لوتريك ينتج أعمالا ابداعية، لكن نمط حياته الفاسد وحبه للشراب المسكر أثر عليه سلبيا.. وفي 1897 ظهرت عليه علامات الادمان. وضع في مصحة على اثر نوبة من الهذيان؛ وفي صيف 1901 أعادته امه الى مزرعتها حيث توفي بعد سكتة دماغية.. وهو بسن 36 سنة فقط.  
للمفارقة؛ صار لوتريك (أثناء مسيرته لخلق ثقافة المشاهير) أحد ضحاياها المبكرين. ولكن موهبته المتفردة جعلت صور أولئك الذين وثق فنهم رموزا خلدت حقبتهم؛ فيما غابت سيرة العديد ممن جاؤوا بعدهم..