العروة الوثقى

منصة 2021/02/12
...

 جواد علي كسّار
 
بتاريخ الخامس من شهر جمادي الأولى سنة 1301هـ الموافق 12 آذار 1884م صدر العدد الأول من جريدة «العروة الوثقى» وفي رأسه: مدير السياسة السيد جمال الدين الأفغاني، ورئيس التحرير الشيخ محمد عبده. وبعد رحلة لم تدم أكثر من ثمانية عشر عدداً صدر العدد الأخير في ذي الحجة سنة 1301هـ الموافق تشرين الأول عام 1884م. 
وصف محمد عبده (ت: 1905م) آثار ما صدر من هـذه الجريدة، بقوله: «وقد أخذت من قلوب الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً، ما لم يأخذه قبلها وعظ واعظ ولا تنبيه منبّه، وذلك لخلوص النيّة في تحريرها وصحة المقصد في تعبيرها، ثمّ قامت الموانع دون الاستمرار في إصدارها».
برغم مرور قرن ونصف القرن على هذه التجربة الريادية التي أطلّت على ديار المسلمين من باريس حيث كان يقيم السيد جمال الدين الأفغاني، إلا أن مادّتها ما تزال مليئة بالدروس والعبر مشحونة بالعظات. وهذا ما يفسّر كثرة ودوام الاستشهاد بها في كثير من الكتابات الحاضرة.
قبل قرن ونصف القرن تقريباً نبّه الأفغاني (ت: 1897م) الحكام المسلمين أو بحسب تعبيره: أمراء الشرق من مغبّة الانخداع بالسياسة الانكليزية، التي تؤمّن الإنسان على نفسه، وتغريه بالسلامة على كيانه ومنزله ووضعه، إن هو صمت على ما يحلّ بجاره من خراب بيته ودماره وذبحه، ثمّ حتى إذا ما انتهت بريطانيا من تصفية حسابها مع الجار، انعطفت على المخدوع فقضت عليه كما قضت على جاره.
لكن الأهمّ من ذلك برأيي مفهوم الخيانة الذي عرضت له «العروة الوثقى»: «لسنا نعني بالخائن من يبيع بلاده بالنقد ويسلمها للعدو بثمن بخس أو بغير بخس، وكلّ ثمن تباع به البلاد فهو بخس، بل خائن الوطن يكون سبباً في خطوة يخطوها العدو في أرض الوطن، بل من يدع قدماً لعدو تستقرّ على تراب الوطن وهو قادر على زلزلتها، ذلك هو الخائن في أيّ لباس ظهر وعلى أيّ وجه انقلب.
القادر على فكر يبديه أو تدبير يأتيه لتعطيل حركات الأعداء ثمّ يقصّر فيه، هو الخائن، من لم يستطع عملاً وأمكنه أن يرشد العامل وتهاون في النصيحة فقد خان، من سوّف عمل اليوم إلى غدٍ وتوانى في تضليل كيد الأعداء بقول أو فعل فقد ارتكب خطيئة الخيانة. وكلّ خائن لوطنه أو ملته فهو ملعون على ألسنة الأنبياء والمرسلين، وممقوت في نظر العالم أجمعين.. محيت أسماء العظماء والملوك والسلاطين ولكن لم تمح أسماء الخائنين».
معيار الخيانة في هذا النصّ وإن كان يومئ لمن يُعين الأعداء على الأوطان، لكن الأخطر من ذلك هو كلامه عن تعطيل الطاقات، ومن يقصّر عن عمل يمكنه أن يؤدّيه، ومن يتوانى عن فكر يستطيع أن يبديه، فإذا كان تعطيل الطاقات هو الخيانة، فما أكثر الخائنين على ضوء هذا المقياس!