حسين فرحان
عمت الفرحة بيته الآيل للسقوط في واحدة من عشوائيات السكن التي تتوسط المدينة وتشاطرها الماء والكهرباء والمجاري، وعلت محياه ابتسامة لم يعهدها منذ زمن بعيد، فقد أصبح يمتلك بطاقة ذكية تمنحه فرصة تسلم دراهمه المعدودات من دكاكين الصيرفة، المتصرفة بمشاعر الموظفين وهم ينظرون لذلك الشريط الأبيض الذي يخرج من رحم أجهزتها فيمنح الوجوه ابتسامتها او يجعلها مسودة كظيمة حتى إشعار آخر في شريط لاحق يخبرهم بأن من صرح بالصرف عبر التلفاز قد صدق ولو بعد حين فلم ينتحل واحدة من ثلاث آيات لم تكن إلا سمة المنافقين.
عمت الفرحة بيته وهو يتسلم تلك البطاقة ذات الشريحة الذهبية، لينتابه شعور بانتمائه لشعب أصبحت تدير شؤونه الحكومة الألكترونية، كان ينظر لها على أنها ممارسة حضارية تجعله مثل أولئك الممثلين الذين يظهرون في الأفلام الأجنبية وهم يدخلون بطاقاتهم في أجهزة الصرف الآلي وببضع لمسات تخرج لهم من افواهها الاوراق النقدية بمختلف فئاتها..
كان ينظر لهذه البطاقة على أنها التجسيد الكامل لرواية تداولتها منصات (الفيس بوك) ومفادها أنك لن تحمل النقود بجيبك بعد اليوم فكل ما عليك هو أن تتبضع وتعطي بطاقتك لصاحب الأسواق فيستقطع منها المبلغ من دون حاجة للعد او البحث عن الفكة، وأن معاملة بهذا الشكل ستجعله بطلا من أبطال هذه الرواية..
كان ينظر لهذه البطاقة الإلكترونية على أنها السبيل الميسر للاقتراض وقتما يشاء من دون أن يفكر بعدها بموعد التسديد، فالاستقطاع سيعمل بشكل تلقائي ولن يشعر به أو تقض مضجعه تلك الحسابات المؤاخية لوسادة الديون ومواعيد التسديد..
حسناتها كثيرة هذه البطاقة المقواة المستطيلة اللامعة، ومن شدة فرحه بها كان يكثر من تفقدها ليطمأن بأنها ما تزال في جيبه..
سأل صاحبه الذي يحسبه من المثقفين -عما كان يدور في خلده من تصورات- عن الذي يمكن أن تفعله بطاقته الجديدة.. كان الرجل يحدثه عنها بطريقة ساخرة ليسقط أحلامه الواحدة تلو الأخرى.. ويختصر له المشهد بجملة صغيرة: (انك واهم، فلن تستلم بها سوى الراتب والسلفة).. حاول أن يستفسر عن السبب الذي لايجعلها مثل البطاقات التي يشاهدها في الأفلام الأجنبية، لكن صاحبه أصر على أنها مجرد أفلام..
انقضى شهر فتسلم راتبه الأول وكان قد بذل جهدا كبيرا في حفظ أرقام بطاقته السرية التي عجز عن تذكرها عند شباك الصيرفي وسط إلحاح المتبقين في طابور الانتظار وسخريتهم منه وهو يخرج ورقة صغيرة من جيبه كتبت فيها ابنته الصغيرة تلك الأرقام التي عجز عن تذكرها..
تسلم راتبه الأول.. وضعه في جيبه وانصرف لتتبعه صيحات الواقفين في الطابور تخبره بأنه قد نسي البطاقة وشريطها على شباك الصيرفي..
عاد بعد شهر لتسلم راتبا جديدا، كان أفضل حالا من الشهر السابق فقد حفظ عن ظهر قلب تلك الأرقام وتسلم معاشه من المكتب من دون ارتباك أو سخرية من الآخرين..
في الشهر اللاحق فكر بأن ينتفع من الميزة الثانية فلم يبق له سوى أن يقترض من المصرف وما على بطاقته سوى التسديد.. يالها من تكنولوجيا متقدمة- بدأ يحدث نفسه- توجه بعدها للمصرف لتخبره احدى الموظفات -وهي منهمكة بتناول فطورها- بأن التعليمات تقتضي أن يقدم طلبا باقتراض مبلغ يتناسب مع راتبه الكلي، وأخبرته بنسب الاستقطاع ومدة التسديد، لكنها ورغم انشغالها بوجبة الفطور أخبرته بأن ما سيتبقى له من معاش قد لا يكفيه طيلة شهر كامل مالم يكن لديه مصدر آخر للدخل، لم تكن كلماتها لتمنعه من مواصلة المسير نحو الاقتراض، فمبلغ القرض جيد وسينفعه كثيرا، وما سيتبقى من راتبه سيسد حاجته مع شيء من التدبير واسترسل بحوارية طويلة لإقناع نفسه بصواب ما يفعله.. فهو المضطر تارة وهو الذي يعلل النفس بالآمال تارة أخرى..
تمت عملية إقراضه بنجاح، تسلم نقوده التي ثلم المصرف منها ثلمة ألمت به ولم يعرف سبب استقطاعها.. تمتع بما اقترض بعض الشيء.. اشترى للدار بعض ما ينقصها ولزوجته بعض مايلزمها وللصغار ما يشعرهم باهتمامه بهم وأنه مثل غيره من الآباء الأثرياء.. كان مبلغ القرض ينقص شيئا فشيئا حتى تلاشى من دون ان يشعر به..
بعد شهر حان موعد تسلمه لراتبه الأول بعد الاستقطاع، كان يتمنى أن تصدق نبوءة جاره وهو يخبره أن المصرف ربما لن يستقطع شيئا لشهر أو شهرين، لكن آماله تحطمت عند شباك الصيرفي وهو يمنحه بقايا راتبه كأنها ثوب ممزق لا يكاد يستر عورة أيامه..
تسلم بطاقته من الشباك وهو يردد: (لم أكن أعلم أنك ذكية الى هذا الحد).