الانتماء إلى المكان

ثقافة 2019/02/03
...

  جاسم عاصي
 
 
يسعى المنتج للنص الجاد نحو تأسيس صوته السردي، عبر عيّنات قصصية أو روائية. من هذا نجد في هذا المسعى محاولة لتأسيس هوية سردية. فالهوية بشكلها العام، تعني في أهم ما تعنيه؛ هو النمط الإنساني الذي يعمل على تأصيل الأشياء والظواهر والفعاليات المختلفة. ولعلّ السرد باتساع مساحته، وشمولية رقعته، أصبح من أهم الملامح لما يتوفر في الوجود. لأنّه أساساً يعمل (أي السرد) على تدوين ما لم يدوّنه المؤرخ. بمعنى يشترك بصفته المتعلقة بالهوية مع المؤرخ. فلكل منهما هويته التي تُعطي خاصية ذاتية لكل منهما، غير أنّهما يُسهمان في التعامل مع التاريخ باختصاصاتهما ووظائفهما الذاتية. إن مشروعية التأسيس تعتمد على تقديم منجز حامل لما ذكرناه، أي له محمولات التأسيس لما ندعيه بالهوية السردية. ونحن هنا نؤكد على تفاصيل الهوية، المتبلورة بالصوت السردي، الذي تميّزه النبرة السردية بكل حمولاتها ومنها:- طبيعة التناول السردي. صوت السرد.ما يحمله الصوت من معانٍ. الكيفيات التي تُدير المعنى.ـ ما يُرافق طبيعة السرد ونكهته.
ــ يكون التأسيس على ( المكان، الشخصية، الزمان، الأسلوب).
من هذا الضرب من التخريج، ستكون قراءتنا لمجموعة القاص (أنمار رحمة الله/ واسألهم عن القرية). في هذه المجموعة والتي قبلها، حاول القاص بمسعاه لبلورة صوته القصصي، غير المنفصل عن تجارب الآخرين، سواء من القصاصين العراقيين أو العرب، وإنّما حاول بطريقته في إدارة حبكة النص، أن يخلق من تجاربهم ظلالاً خفيفة الوقع من أجل أن لا يبتعد بمعنى ينقطع عن تجاربهم . 
 
العتبات 
وما نعنيه بالعتبات (العنوان الرئيسي+ لوّحة الغلاف + مقدمة الأب محمد خضير + التقسيمات للكتاب القصصي ــ القسم الأول والقسم الثاني). وبهذا وضعنا القاص ضمن دائرة كاشفة لسمات المحتوى. وعلى أقل تقدير المسعى القصصي الذي هو بصدده. فالعنوان (واسألهم عن القرية...) يكون ضمن الربط الأبستمولوجي حصراً. فحرف (و) الإضافة؛ يعني أن قولاً سابقاً تركه العنوان لقارئه. فالسارد يوصي بمجموعة من الكلام ومنها (السؤال) في اسألهم. وهنا نأتي على من يطلب السؤال. هذا القائل المتخفي وراء الكاتب 
والسارد؟ 
وما طبيعة السؤال وعن من يسألهم (إنّهم مجموعة) أي كومبارس النصوص، إذ يقود حرف الجر(عن) إلى القرية. أي أن السؤال يُركز على القرية وما يلحقها، والذي تُشير إلى النقاط الثلاث ( . . .) وما تعنيه بالمسكوت عنه. لكن القراءة تؤكد أن ما قبل السؤال وحرف الإضافة (و) والنقاط ما بعد القرية؛ تكشفها القراءة للنصوص. أي أن العنوان ذا إشارات تؤكد على عدم البوح بكلّ شيء، بل الابقاء على المضمرات التي تنطوي عليها النصوص. إذاً النصوص تتمركز على المكان، والقرية 
حصراً. 
 
كيفيّات ومعانٍ 
لعل الاعتماد على المتخيّل السردي، أتاح للكاتب فرصة توسّع  دائرة نصوصه، في كونها تمارس فعل الكشف وسط متسع من المساحة. الأمر الذي دفعه إلى تخيّل ما ليس بالحسبان بالنسبة للمتلقي، والذي نعني به الضربة القصصية التي تتطلب المهارة والقدرة على تبئير حيثيات النص ضمن دائرة تأخذ بالضيق حتى تلملم القصد من المعنى العام للنص. كما وأنه وفّر مساحة لمنهج الفانتازيا الذي يُعاضد التبئير وسمة السخرية البليغة، والتي تقود أيضاً إلى تجسيد المفارقة في نقد الواقع. وفي هذا اعتمد الإشارة والعلامة التي أتاحت للنص الارتقاء عن المستوى الواقعي باتجاه المتخيّل المنضبط الذي لا يؤدي إلى منحى الخيال المسرف. إن التخييل امتحان للقدرة البلاغية للكاتب، الذي ما اختار مثل هذا النهج إلّا استجابة لموهبة 
ضاغطة. 
فالأشياء والصوّر تتكثف عنده  وتظهر على مستويات متعددة. ولنا في تجربة (غوغول) في روايته القصيرة (المعطف) خير مثال على التخييل للخروج من أزمة النص إن حصلت. فهو بمثل هذا النزوع أكّد تأثره بالحكاية القديمة، خاصة الحكايات الشعبية الشفاهية، فابن القرية يحمل في ذاكرته كماً نوعياً من الحكايات، التي اختمرت في مختبره القصصي، فظهرت على شكل شذرات قصصية واضحة التأثر. لعله في هذا الضرب من التوظيف، يعكس مديات الصراع بين الوعي والجهل. فهو يثأر خلال القصص للجماعات التي رزحت تحت نير الآفات المجتمعية، لاسيّما في بيئة الريف. فإذا ما اتضح لنا جلياً أن نصوصه لم تغادر القرية عمارة وبنية، فإنّنا سنقف في الجانب الأهم من نصوصه المولعة بذاكرة القرية 
الأم. فقصص مثل "المعلم، العازف، حارس المكتبة" مبنية على ثيمة مهمة، وهي استعادة الوعي ورفع غطاء الاهمال عن الحقيقة. ولعل معظم القصص تُفعّل مثل هذه 
المؤثرات. 
فهي قصص ناقدة للواقع، لكن نقدها مبطن بحيثيات فنية، وصناعات متخيّلة، أضفت على بلاغة السرد قيمة جديدة، خلقت سمات ذاتية للقاص. وهي مهمة ليست سهلة بالمطلق.  أما القسم الثاني، فإنّه أيضاً اجترح له مساراً شكلاً ومعنى، كما ذكر الأستاذ (محمد خضير) في المقدمة. والاجتراحات شملت الشكل من باب التكثيف والقصر والضربة الموحية، والتي تقرّب النص من القصة القصيرة جداً التي كتبتها (ناتالي ساروت) 
حصراً.