ثانية لهذا المكان، وبعد سنين، من قال أنّي سأعود يوماً إلى حيث كنت؟، هذا الميناء الصغير قليل السفن لم يتغيّر، ربما قلّت السفن القادمة والراسية فهو خلاف مسيرة العالم، يقفر، يخسر في تسابق واصطخابات العالم .. هو الرمل نفسه وهذه طيور البحر، هي أم سواها؟
متشابهة من يجد فرقاً؟ هي أم سلالاتها، أصرار أن تظل كما هي. وهذي الرياح تركض على الساحل، رياح اليونانيين القدامى، الفينيقيين الذين غابوا، سواهم، تمر عليّ الآن وعلى الرمل والسفن الواقفة. ذلك رجل ترك نفسه للعالم وريحه وصمته والموج، ليس غير دخان سجارته. لم أشأ الاقتراب منه، لكنها خطاي، لا بأس فقد أنهى الفصل الصامت ونهض قبل وصولي إليه.لكن لماذا كان وحده يتابع بعينين ساكنتين دخان سجارته: يبيض، يخف ويذوب بهدوء امامه. لِمَ ارتياحه من ذاك التلاشي، أية راحة يجدها فيه؟ هل يغيب هو كذلك بهدوء، قليلاً قليلاً بلا ألم، بلا أن يحس به أحد، هكذا وينتهي كل شيء؟ لكنه غادر ومعه افكاره أو خواطره أو حزنه الذي اعتزل به وظلت هواجسنا نحن وما نظن. وصلت مكانه.
ها هي الصخرة البيضاء، الملساء تتلامع، كأن تدعوني لأجلس مكانه. أية ادوار نتبادلها؟ نتوارثها؟ راضين بما يجري أو غير راضين؟، لكن الرياح هي تلك الرياح هبت على الساحل، هي من قبل هبّت على ناس لا يعرفهم أحد، أنماط من بشر مجهولين، كأن يجيئون من بلاد أخرى يبحثون عن شيء. وهذا الغريب اليوم بطيئا، يتردد في التقدم أكثر، لكن ثمة ما يدعوه، ما يكاد يسحبه من يده ليتخذ مكانه وليؤدي دوراً، نوبة، ولتستمر الريح والرمل ، ويظل إنساناً يترك روحه وأفكاره تغيب..هل هكذا نتبع بعضنا، واحداً مجهولاً بآخر مجهول تاركين رملاً لسوانا وريحاً وطيوراً متشابهة كما هي منذ قرون ..؟ وأنا أغادر بعد ساعة صمت وانصاف كلمات، نظراتي إلى غير ما تقصد أو تبحث عنه، وقليلاً قليلاً ابتدأ دون أن أدري، ابتدأ الزحف، الأصوات، بدأ تخاطف البشر العجلين والعربات ثم أفزعتني اللافتات تشتعل وقرفت مما وراءها، ثم، لمت نفسي!
الجميع يريد ينجز شيئاً والجميع يريد وصولاً لغايته وإلّا، فما تكون الحياة لو أن الجميع ضاعوا على سواحل رمليّة وكل أبعد نفسه صمتاً على صخرة تقف في عراء؟ من المخطئ منا، من الذي يجب أن يكون؟ هم الذين انتبهوا للعيش، للكسب، لممارسة الزحام، أم نحن الذين انتبهنا أيضاً إلى أن سعادة هادئة، أن صمتاً ناعماً، رضا ...، تريده أرواحنا لتنجو وبعيداً عن الصخب قريباً من الله والبحر والرياح والطيور..؟
أيضاً انتبهت إلى ما كان لي، تذكّرت مكسباً خفياً لم يره أحد. هو هبة الله أو هبة البحر أو هو مما إليه بعض من لهفة روحي، من عطشها من هيامات ذاتي الأخرى وتوقها الأزلي.
تذكّرت وأنا على صخرة الساحل الملساء، ببياض صدفة كبيرة تلمع في الفراغ وأمام البحر، كيف وصلت بنيلوب، ابتسمت كما مطمئنة وحلّت شعرها فوق السطور التي كتبت، وكيف تركت بعض محبة وبعض حزن وصمت على حب منكسر لم يمت، حتى إذا فتحت عيني، رأيتني في غابة الزيتون ترفُّ عليَّ وأنا أسير موسيقى بعيدة. ما كانت بنيلوب روحاً، وما كانت مقدّسة، ولا كانت وهماً، فقد كنت أتنفّس شذى ناعماً وأنا أجيء إلى آخر السطور ..
كانت مهمومة بجمالها وعنف العالم وضياعها في الصبر وموت الوردة. مسافات طويلة قطعتها، أرادت أن تبثني حزناً، طلبت أن أقرأ السطور الأخرى في الأسطورة التي على ألسن فقد فاتت الجميع، كما تفوتنا دائماً، فاتت الجميع تلك السطور القليلة، نصف الممحوة على الصفحة
الثانية ...