22 طفلا يتيما.. أول ناقلي اللقاح الى العالم

بانوراما 2021/02/13
...

سام كين
ترجمة: ليندا أدور
كانت مسألة تطوير أي لقاح هي الجزء السهل من العملية، أما التفكير بإيصاله الى أذرع الأشخاص، فذلك هو التحدي، كانت اللقاحات موجودة منذ أواخر القرن الثامن عشر، لكن عملية إطلاقها وطرحها للتداول غالبا ما كانت تحفها المخاطر والأخطاء والوفيات العرضية والآمال المتبددة والقرارات الاخلاقية الملتبسة. 
واجهت حملة التطعيم الأولى، في بداياتها، العديد من العوائق الضخمة، التكنولوجية والجغرافية والطبية منها، التي تبدو معها تحديات نقل اللقاح اليوم بسيطة عند مقارنتها بها، ففي نهاية القرن الثامن عشر، كان مرض الجدري، ربما هو المرض الأشد رعبا وفتكا على وجه الأرض، فقد انتشر بسرعة كبيرة مكتسحا كل إنج من جلود البشر، بما فيها وجوههم، مسببا ظهور الآلاف والآلاف من التقرحات الصديدية المؤلمة، متسببا بوفاة أعداد كبيرة، وأصيب من نجا منه بالعمى أو ترك له ندبا عميقة. 
 
إنتاج أول لقاح
مع ذلك، فقد لاحظ الطبيب البريطاني إدوارد جينر، شيئا غريبا، هو ان الأشخاص الذين أصيبوا بأمراض مرتبطة بجدري البقر، لم يصابوا على الإطلاق بابن عمه الجدري، الأشد فتكا، لذلك، بدأ جينر، في العام 1796 بحقن الناس، عن قصد، بجدري البقر لجعلهم محصنين ضد الجدري لينتج أول لقاح.
 لكن هذا الإنجاز قاد الى معضلة أخرى، اذ كيف سيتمكن الأطباء من نقل اللقاح لمن يحتاجه؟ ففي أوروبا، كانت عملية توزيعه يمكن التعامل معها، فبعد أن تتطور التقرحات، للأشخاص المصابين بجدري البقر، لتشبه البثور المليئة بسائل يدعى اللمف، يقوم الأطباء، بعملية مباشرة لكنها شاقة بعض الشيء، بوخز البثور واستخراج الصديد منها ومسحه بخيوط حريرية أو نسالة قطنية وتركه يجف، يتوجهون بعدها الى قرية أخرى، ويقومون بخلط اللمف الجاف بالماء لإعادة تكوينه، من ثم يدخلون السائل في أذرع أو سيقان الأشخاص عن طريق  افتعال جروح سطحية على الجلد لينقلوا اليهم مرض جدري البقر.
 
دزينتان من الأطفال
لكن المشكلة الحقيقية بدأت عندما حاول الأطباء تطعيم الناس في أماكن بعيدة، اذ قد يفقد السائل اللمفاوي قوته، حتى وان كانت المسافة بين لندن وباريس 215 ميلا، ناهيك عن القارة الأميركية حيث الحاجة ماسة اليه, فتفشي الجدري هناك كان الجحيم بعينه، بعد أن اسفر عن وفاة نحو 50 بالمئة من الذين اصيبوا به. 
لكن، بين الحين والآخر، تمكنت خيوط اللمف الجافة من النجاة عبر رحلة المحيط  تلك، لتصل اول دفعة منها الى «نيوفاوندلاند» خلال العام 1800، لكن كان اللمف قد فقد قوته بعد شهور قضاها عبر البحر. وقد جاهدت اسبانيا لايصاله الى مستعمراتها في أميركا الوسطى والجنوبية، وهو ما دعا مسؤولي الصحة لابتكار طريقة جديدة لنقل وتوزيع اللقاح خارجها وكان الحل في الأطفال اليتامى.
تضمنت الخطة وضع دزينتين من الأطفال اليتامى الاسبان على متن سفينة، يقوم الطبيب بإعطاء اثنين منهم  لقاح جدري البقر قبيل مغادرتها الى المستعمرات، بعد مضي تسعة أو عشرة أيام في البحر، فيقوم فريق من الأطباء على متن السفينة بشق التقرحات او البثور على ذراعي الطفلين، وخدش السائل الموجود فيها في ذراعي طفلين آخرين، وبعد مرور تسعة أو عشرة أيام أخرى، ما أن تظهر البثور، يتم خدش زوج ثالث من الأطفال بالسائل، وهكذا. إجمالا، مع حسن الإدارة والقليل من الحظ، ستصل السفينة الى الأميركيتين مع وصول الزوج الأخير من الأطفال الأيتام وعلى ذراعهم بثور يتوجب خدشها، حينها سيمكن لفريق الأطباء البدء بحملة تطعيم الأشخاص انطلاقا من السفينة.
 
البعثة الخيرية الملكية
بالنظر الى تلك الفترة، لم يُسأل أي من الأطفال اليتامى ان كان يرغب بالمشاركة أم لا، وبعضهم بدا أصغر من أن يبدي رأيه، فقد كانوا يعيشون في دور للأيتام ولا يمكنهم المقاومة أو الرفض، لكن الملك كارلوس الرابع، ملك اسبانيا، قرر منحهم بعض الوعود، كتزويدهم بالمزيد من الطعام اثناء الرحلة ليبدوا بصحة جيدة لدى وصولهم هناك، فالمظاهر مؤثرة، فضلا عن وعدهم بتعليم مجاني في المستعمرات، وفرصة للبدء بحياة جديدة هناك من خلال أسرة تتبناهم، وهو حال أفضل بالتأكيد مما هم في اسبانيا. أبحرت البعثة الخيرية الملكية في شهر تشرين الثاني من العام 1803 وعلى متنها 22 طفلا يتيما تتراوح أعمارهم بين 3 و9 سنوات برفقة الطبيب «فرانسيسكو كزافييه خافيير دي بالميس» مع فريق من المساعدين، ورغم التخطيط الدقيق لها، كانت الحملة على وشك الفشل، فعند رسو السفينة في العام 1804،  بينما تعرف اليوم بكاراكاس عاصمة فنزويلا، كانت بثرة واحدة قد تبقت على ذراع صبي واحد، لكنها كانت كافية ليبدأ بالميس التطعيم، مركّزا على الأطفال، الذين هم أكثر عرضة للإصابة بالجدري، وقد نجح فريقه بتلقيح 12 الف شخص في غضون شهرين فقط.  من كاراكاس، انقسم فريق بالميس الى قسمين، الأول انطلق برحلة استكشافية الى كولومبيا والاكوادور والبيرو وبوليفيا، ورغم صعوبتها، تمكن من تطعيم نحو 200 الف شخص، بينما توجه بالميس الى المكسيك، حيث منح اللقاح لنحو 100 الف شخص، سافر بعدها الى اكابولكو، استعدادا لبعثة لقاح جديدة، لكن هذه المرة الى المستعمرات الاسبانية في الفلبين، فقام باستئجار أطفال، ليسوا بأيتام، بل من أسر مختلفة، كناقلين للقاح الى آسيا. 
وصلت السفينة الى الفلبين في نيسان 1805, وخلال بضعة أشهر تمكن بالميس من تلقيح 20 ألف شخص، ابحر بعدها باتجاه الصين ونجح في تطعيم الناس هناك، كان الانجاز مذهلا، فبغياب المعدات أو وسائل النقل الحديثة، تمكن فريق بالميس من نشر لقاح جينر 
بجميع أنحاء العالم بفترة أقل من عقد، وتطعيم مئات الآلاف وإنقاذ ربما الملايين من 
الأشخاص.