الخطاب والرمز في طائر التلاشي

ثقافة 2021/02/13
...

  إبراهيم رسول
 
 
اشتغلَ السرد بطريقةٍ خيالية بحتة، بشخوص وحوادث رمزية وأسماء أماكن وشخصيات ترمز إلى باطنٍ مضمر في النص، الحكاية السردية كانت تتخذ أساليب عدة في طريقة نسجها أو صوغها، فلم تلتزم الرواية منهجاً فنياً معيناً، بل كانت متناوبة في أغلب الأحيان، السارد يستبطن الفكرة برمزية عالية الدقة، وهذه الرمزية التي اتخذها السرد هي رمزية فنية تضاف إلى عناصر الجمال الفني في بناء الرواية ككل، فالعنوان ينطبقُ على ثيمةٍ مميزة، لذا نرى أن هناك ترابطاً وشيجاً في المعنى بين العنوان والموضوع الرئيس، ولكن تبقى رمزية الثيمة عالية الدقة وتستبطن أموراً كثيرة.
 لعل مفردة (التلاشي) لها دلالة، فهو لم يكتب الفناء، إذ الحالة تبقى بين الحياة والموت، ربما يرنو إلى تمثل الحالة التي تعيشها هذه الجزيرة بمرحلةٍ من مراحل حياتها العمرية، فالتلاشي عكس الفناء والحياة، أن تبقى مسألة مرضية وهذه الإشارة ذكية من الكاتب، إنه يريد أن يعرب عن الحالة التي سادت في هذه الجزيرة، إذ فتح الكاتب أمام المتلقي الكثير من التأويلات لهذا النص المضمر، (تخاخا) شخصية لها الحضور المكثف في الرواية، ولعل تلك القضية التي أثارها قد أحدثت خرقاً بالمفاهيم والمعتقدات العامة لتلك الجزيرة التي يحكمها عرف معروف. 
هذه الشخصية أثارت قضية تخص العقيدة السائدة في الجزيرة، وهي قضية فلسفية تمكن الكاتب من نسجها بصورة احترافية، إذ كان يقول بأن الطير يتلاشى وبما أننا نأكل الطير سنتلاشى إذن وكل متوقعٍ آت! هذه التهمة أو الجريرة التي اقترفها تخاخا والتي أودت به إلى النفي إلى جزيرة أخرى كعقوبة لأنه اخترق التعاليم والقانون السائد، وهي إشارة رمزية تشي بأن الذين يخالفون العرف العام على علاته وأخطائه سيتعرضون إلى الاقصاء والتهميش والنفي! هذا القانون مازال ساري المفعول بهذه المجتمعات المنغلقة بل حتى المتطورة منها. 
إذ إن عقوبة النفي ما زالت مطبقة حتى اللحظة، ولعل إشارة الكاتب إشارة ذكية في قضية نطق القضاة للحكم، يقول النص: (وقف القضاة جميعا وانتصبت قاماتهم، ونادى القاضي الأول على الجميع بالانتباه والاستماع إلى قرار الحكم، إذ استأذن أولا من الحاكم، عن إصدار قرار الحكم)، هي إشارة إلى إمكانية تطويع القضاة لقرار
السلطان. 
وهذا حصل ويحصل في الأنظمة المتسلطة الديكتاتورية، إذ يكون القاضي بأمر الحاكم! وهذه قضية مثيرة للجدل بين علاقة القاضي والسلطان، وقد ورد في التاريخ الكثير من قُبيل هذه القصص، التي كان فيها القاضي طوع أمر الحاكم! بقيت الفكرة الرئيسة لها الثقل الأكبر في السرد ولم تغب عن خيال الكاتب، والطريف أن هنالك بوحا تراثيا ورد في داخل النص وبالأخص في الفصل الثالث، الذي كان فصلاً يحمل نكهة تراثية قديمة وظفها القاص بأسلوبه الخاص، إذ جعل طريقة تغيير الإله القديم بعملية انتقال جمعي لكل الناس، وقام هؤلاء الناس بعبادة الإله الجديد (الطائر الداجن).
 يؤكد هذا مقولةً شائعةً وهي أن الناس على دين ملوكهم، هذا التطويع وفرض الرأي من قبل السلطة يأتي لأنها تملك زمام التصرف والقيادة على حياة الناس العامة، الرمزية الخيالية هي ما كان عليه السرد بمجمله، الرواية تتحدث عن تاريخ قديم ومعاصر لجزيرة لكنها ليست رواية تاريخية، فهي تعالج الحدث وفق رؤية اختص بها السرد وعمل عليها، فكان الخطاب خطاباً حيوياً لأنه يحاكي حدث متجدد، الخيال القصصي كان بعيد الغور في بث حكاية إثر حكاية إثر حكاية، هذه القصص كلها لم تبعد عن الفكرة الجوهرية لفحوى الرواية، إذ هذه القصص أو الحكايا القصيرة كانت مكملة لعملية البناء السردي للقصة الأم، هذه صفة قل من برع فيها وكتب على غرارها، الكم الرمزي جعل من الرواية عبارة عن نص مضمر، هذا الضمور الخيالي يستدعي أن يكون المتلقي متعمقاً في فهم النص والغور في داخله حتى يستطيع أن يفكك ويحلل ويفسر. 
الخطابُ الرمزي كان خيالياً بامتياز وهي ميزة من أفضل ما اتصفت أو اشتغلت عليه الرواية في بنائها، الاستحضار الذي عملت عليه الرواية أن أحداثها كانت لها دلالات في واقع أحداث الحياة المعاصرة ولكن بأسلوب رمزي، الحدث الرمزي قد صِيغ بلغة هي الأخرى رمزية أيضاً مما جعل النص ذا فضاء مفتوح يحتمل أوجهاً عدة من وجوه
 التأويل. 
إن أي عملية تفكيكية لهذا النص تجعل لكل قراءة نصيب من هذه التأويلات، الصوغُ في بناء الحكايات كان يتطور تطوراً أفقياً يتناسب مع تطور الثيمة المركزية، سيجد المتلقي وسائل كثيرة في البناء الأفقي لكن هذه الوسائل كلها تنحو منحىً فنياً لا يبعد عن فحوى ومغزى القضية التي تعالجها فكرة الرواية، الرواية التي أخذت مساحة كبيرة من الرمزية والدلالة أعطت انطباعا كبيرا من خلال نصها المفتوح، تركت الرواية بصمة في خاتمتها وهي أنها أعربت بأنها قد اكتملت ووصلت إلى نقطة النهاية لكن أحداثها ما زالت شاخصة مستمرة لم تتوقف!.
 هذه الكلمة هي شفرة قوية تركها الكاتب للمتلقي لكي يجعله مشغولا بهذه الرواية، الروائي أراد أن يشخصن الحالة ويترك الفضاء التأويلي للمتلقي، وهو بهذا حسناً قد فعل، إذ الكاتب الجيد هو من يجعل القارئ يتساءل بل يكثر من ترديد الأسئلة وفي كل عملية تساؤل ينفتح بابٌ جديد من الأسئلة، هذا يدلُ على عمق النص ورصانته التي حِيك بموجبها وعلى دراية تامة بعيدة
 الغور.
 تعمدَ السارد أن يكون الخطاب مفعم بالتورية وعدم التصريح بل كان تلويحه أقرب في المعنى من تصريحه، فالرواية عملت للإنسان الفرد، المجتمع، السياسة، التاريخ (الأجيال السابقة واللاحقة)، التربية (علاقة الحاكم بأمه)، كل هذه القضايا كان لها نصيب وافر من الحبل السردي برؤاه التأويلية. 
إن استخدام عنصري البلاغة أضفى كما تفسيريا وتأويليا لمختلف الأوجه لأن دلالة المفردات كانت متغيرة متجددة تتناغم مع المغزى المبطن في النص.