من الملاحظ أن القلق الذي يعيشه الفرد بالمجتمعات الشرقية طال جميع مفاصل حياته، جراء الايمان العميق بالحسد والعين والخوف الشديد من الاصابة بهما، ما جعله يتقيد ببعض احاديثه وسلوكياته امام الاخرين، وينصرف عن التعامل العفوي التلقائي في اغلب الاحيان، اذ يتداول معظم الناس القصص بينهم بشأن تعرضهم للحسد ويتفاعلون كثيراً معها، وبالتالي وصلوا الى مرحلة محاولة تجنب بعضهم الآخر، والعلاقات الانسانية بينهم اخذت شكلاً مختلفاً، عما كانت عليه في السابق.
ويكاد لا يوجد فرق بالموضوع بين المجتمع المتعلم والمثقف والذي لم ينل نصيبا من التعليم، حتى صار(البعض) الذي يفتخر بانه يحمل اعلى شهادة من اكبر جامعة في العالم، يعلق في بيته تقليعات وتعويذات الحماية من العين، خشية الحسد وزوال النعم التي يتمتع بها.
التقدم التكنولوجي
ترى وداد عبد الله أن "الحسد موجود في كل زمن ولكن طريقة التعامل معه اضحت مقلقة فعلا، اذ يفترض بعد كل هذا التحضر والتقدم العلمي والتكنولوجي والاطلاع على الحياة في العالم عن كثب، من خلال وسائل الاتصال الحديثة والسفر الذي اتيح للجميع، أن يكون الناس اكثر عقلانية في تصرفاتهم تجاه هذا الموضوع"، مضيفة "هناك مبالغة واضحة بالخوف من الحسد، وبالمقابل فانا استغرب من ان هناك نفوسا خبيثة، ضعيفة، مريضة نفسيا، تسرف الكثير من وقتها في سبيل مراقبة الناس وتتبع اخبارهم، بحقد وكراهية مصحوبة بغيرة وعدم حب الخير للغير".
أخبار سعيدة
وتحكي وصال جاسم عن تجربة تكررت لأكثر من مرة، كلما نشرت (بوست) او صوراً مع زوجها، اذ تقول "تنقلب حياتي رأسا على عقب في اليوم التالي، فاضطر لحذف الصور، ورغم تحذير زوجي الدائم لي، لكنني بطبيعتي احب التصرف بتلقائية فاعلن عن فرحي كما حزني، لاعتقادي بان جميع الناس مثلي تتمنى الخير لي وتبارك سعادتي"، و تؤكد "هذا ما اشعر به عندما ارى منشورات الاصدقاء بالفيس، فلا انظر لها بعين الحسد والغيرة، على العكس تماما تبهجني جدا اخبارهم السعيدة واتفاعل معها بصدق وود كبير".
قوة خفية
اما احمد خلدون فيصف موقفا محرجا وضع به عندما زار احد اصدقائه خلال موسم الصيف الماضي، ومع معاناة ارتفاع درجات الحرارة واثناء دخوله للبيت، قام صاحبه بتشغيل جهاز التبريد فورا، حينها عبر خلدون عن امتنانه للهواء البارد الذي شعر به مقبلا عليه من (السبلت)، لكن المصادفة وضعته بموقف مخجل جدا، اذ اصيب (السبلت) بعطل ما حال الانتهاء من كلامه، فتفاجأ وكانت ردة فعله سريعة رغم معالم الارتباك التي غطت ملامح وجهه، اذ اعتذر وحاول تغيير الموضوع، سعيا لتبديله الى مزاح، فيقول: "رغم انني لا امتلك اي مشاعر او نية سيئة تجاه اي انسان، لان الله انعم علي بكل ما اتمنى، ولا ابخل على نفسي ولا على اسرتي، فكل ما نحتاجه متوفر وسهل المنال، ولكن لا افهم ماهي تلك القوة الخفية التي تدفعني للحسد من دون قصد، وقد تكررت معي هذه الحالة لمرات عديدة وانتبه عليها الكثير من الناس حولي وتسببت في خلق بعض المشكلات لي".
نجاح المشاهير
لا يؤمن اسماعيل محمد بتلك (الخزعبلات) كما يسميها هو، ويعتقد انها لو حصلت يمكن تفاديها ودفعها بالأذكار والتسبيح وقراءة بعض آيات القرآن الكريم، موضحاً: "ليس من المعقول ان كل من يمر بظرف صعب معناه انه محسود، لان معظم البشر من دون استثناء تأتي عليهم ايام (مرّة) يتعرضون فيها للخذلان والمرض والفشل والاخفاق والتراجع بكل مجالات حياتهم، ويتساءل لما المشاهير الذين يعلنون عن كل خطواتهم ومشاريعهم الناجحة سواء في الحياة الخاصة او العمل، ويظهرون دوما بأفضل حال امام الجمهور، لا يحصل لهم شيء من هذا القبيل؟، لانهم لا يركزون على هذا الموضوع ولا يمنحونه اهتماما كبيرا ومساحة واسعة من تفكيرهم".
وينتقد اسماعيل بعض النساء، لأنه يرى انهن في الغالب وراء تضخيم تلك الامور واشعال نيرانها في البيوت.
حوادث مدمّرة
في حين تقول رؤى وليد "كلما نويت الخروج من البيت اتراجع احيانا، خوفا من نظرات الجيران الحاسدة، لذا أحاول متابعة الطريق من خلف الباب الخارجي قبل التهيؤ للمغادرة، معللة ذلك بأن هناك اشخاصا من بعض المنازل المجاورة لهم معروفين بتلك الصفة المذمومة"، ولأن رؤى اصيبت لفترة من الزمن بأمراض شتى وتعرضت لحوادث مدمرة ومؤلمة نفسيا، ولم تتمكن من استعادة عافيتها الا بصعوبة، قررت قبل الاقدام على عمل اي شيء عدم اخبار الاخرين به، سواء من الاقارب او الجيران او الزملاء بالدوام، فقد ادركت مؤخرا قيمة مقولة النبي محمد عليه افضل الصلاة و السلام "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فان كل ذي نعمة محسود" واخذت تلتزم بهذا المبدأ.
الاصابة بالعين
يؤكد الباحث النفسي والاجتماعي الدكتور عبد الكريم خليفة أن هنالك فرقاً بين الحسد والاصابة بالعين، لكن المشكلة أن معظم الناس في مجتمعنا يخلطون بينهما، فالحسد هو تمني زوال النعمة من الغير وبالتالي يعد ظاهرة دينية، وهو موجود فعلا لانه ذكر اصلاً بالقرآن الكريم، ولربما له تأثيرات كبيرة في الفرد.
اما الاصابة بالعين فهي ظاهرة باراسايكولوجية تفسر بانها خروج اشعاع من العين يؤثر في المرئي، ولها تأثير كبير اكثر من الحسد في اغلب الحالات، وتاريخيا الرسول عليه افضل الصلاة والسلام فرق بين الحسد والاصابة بالعين في بعض من المواقف، حينما اصيب الامام الحسين عليه السلام بالعين كانت دعوته (اعوذ بالله من كلمات الله التامة) اما عندما اصيب الامام الحسن عليه السلام فقال (اغسلوا العائن).
الحسد والنفس
ويشير خليفة الى انه "يمكن أن نمنع الحسد عن طريق الدعاء والاذكار الدينية، اذ انها مهمة جداً، اما الاصابة بالعين فلا نستطيع التخلص منها لأنها شعاع وظاهرة وقوة كهرومغناطيسية داخلية لا تمنع ابدا مهما حاولنا"، موضحاً "ان للحسد تأثيراً نفسياً واجتماعياً في الانسان الذي يفكر به دائما، و ربما يؤدي به ذلك الى السقوط والانهيار، وهناك نظرية بالصحة النفسية تقول (نبوءة تحقق ذاتها)، لكن في الدول الاجنبية نجد ان هناك نسبة قليلة من الحسد لان الناس هناك لا تؤمن بهذه الظواهر وتلك الحالات، بينما لدينا صارت المرأة تحرص على نشر البخور بالبيت كطقس يومي ضروري، فالشخص الذي يخاف من الحسد يشعر بقلق مستمر ولا يستطيع الاستقرار والتعامل مع الاخرين بصورة طبيعية"، وانتقد خليفة بعض الظواهر المفرطة بهذا الخصوص مثل شراء ثلاجة او تلفزيون او اي حاجة اخرى، وتفضيل وقت الليل لذلك وادخاله للبيت من طريق مختلف، واعتبر هذا التصرف اساءة كبيرة للعلاقات الاجتماعية والانسانية بين الاسر والجيران.