كيف حصل أول تطعيم في روسيا؟

بانوراما 2021/02/14
...

جورجي مانايف
ترجمة: شيماء ميران
كان لدى الروس قبل الامبراطورة كاثرين الثانية خوف من الخرافات بشأن التلقيح، فما كان عليها إلا ان تجرب التلقيح ضد الجدري بنفسها، لإقناع طبقة النبلاء 
بأخذ اللقاح. ففي تشرين الاول من العام 1768، ظلت كاثرين الثانية، حين شعرت بالمرض بعد تلقيح الجدري، في قصر تسارسكوي سيلو معزولة عن بلاط بطرسبورغ، وكان بقربها الدكتور الانكليزي توماس ديمسدال الذي طبق التلقيح لتوثيق وضع الامبراطورة. 
ومع ذلك كانت هناك عربة سرية تنتظر طوال الوقت بأمر من الامبراطورة لمساعدة دكتور ديمسدال وابنه ومساعده ناثانيال في الوقت ذاته للهروب من البلاد، لأنها كانت قلقة من أن تموت بعد أخذ اللقاح فيقوم رجال حاشيتها بإعدام ديمسدال تحقيقا للعدالة الإلهية. فمن هو ديمسدال ولماذا تم اختياره لتطعيم كاثرين؟.
 
موت بالقرب من العرش
لم تلتقط كاثرين عدوى الجدري في طفولتها، لذلك لم تكن لديها مناعة مبكرة ضده. وكان المرض الذي انتشر عبر اوروبا خلال القرن الثامن عشر أحد الامور القليلة التي تخشاها بالفعل، وإلا فهي شخصية قوية لا تتزعزع. فقد كتبت كاثرين في رسالة خاصة ارسلتها إلى فريدرك الثاني ملك بروسيا جاء فيها: «لقد تعلّمت في صغري أن أخاف من الجدري وكلما تقدمت بالعمر كلفني الكثير من الجهد لتخفيف هذا الرعب»، اما زوجها بيتر الثالث، فقد عانى من إصابة حادة بمرض الجدري في طفولته، تاركا آثارا لا تنمحي على صحته وكان وجهه مليئا ببثور دائمة، ومن الواضح أنها لم تنعكس على صُوره الرسمية لكن على ما يبدو جعلت الامبراطور قبيح الشكل.
والاكثر من ذلك، ظهر الجدري في العام 1768 بجوار العرش. وكانت آنا شيريميتيفا إحدى اجمل الوصيفات في البلاط الروسي ومخطوبة للكونت نيكيتا بانين رئيس الشؤون الخارجية كلها في روسيا، وقبل بضعة ايام فقط من الزفاف المخطط له، توفيت آنا بالفيروس الذي تطور بسرعة جدا، ولم يتضح كيف أصيبت به.
وصفت كاثرين الوضع اكثر لفريدرك الثاني: «لقد نصحوني بتطعيم ابني بالجدري، وأجبتُ انه قد يكون من المخزي ان لا أبدأ بنفسي، وكيف اُدخل الجدري من دون أن اضرب مثالا؟، لتبقى في خطر حقيقي طوال حياتك مع الآف الاشخاص، ام ستفضل خطرا اقل وقصيرا جدا، وتنقذ الكثير من الناس؟، واعتقد ان الاختيار الاخير هو الخيار الانسب».
 
ماهية التلقيح؟
اوكلت كاثرين مهمة إيجاد الطبيب الذي يمكن ان يعطيها التلقيح بالجدري إلى نيكيتا بانين، والذي كان قد فقد عروسته للتو بسبب المرض. وبالفعل عُثر على الطبيب في انكلترا، وهو الدكتور توماس ديمسدال، مؤلف بحث عن طريقة جديدة للتطعيم. واُرسل المبعوث الروسي في انكلترا إلى ديمسدال ودعاه للذهاب إلى روسيا. وكتب ديمسدال: «علمت من خلال التلميحات انه اضافة إلى مصالح الامبراطورية بأكملها من هذه الدعوة، فمن المحتمل ان يكون بعض الاشخاص من الطبقة العليا هم الموضوع الرئيسي لرحلتي».
وفي العام 1768، ذهب ديمسدال إلى روسيا مع ابنه ناثانيال. ولدى وصولهم سانت بطرسبرغ وجدوا المستشفى مهيأ في أحد منازل المدينة ومجهزة بالاحتياجات الاساسية لعملية التلقيح، عرض ديمسدال على كاثرين في البداية أن يجرب طريقته على نساء بعمرها ومكانتها، لكنها رفضت لأنه قد يستغرق وقتا طويلا، فذهب إلى تلقيح بعض الطلاب العسكر، ومع ذلك لم تنجح التجارب، وفجأة طلبت الامبرطوارة تطعيمها على الفور.
كانت طريقة التلقيح المعروفة بالتطعيم شائعة في الهند منذ العصور القديمة، إذ يتم إحداث بين 10 و15 جرحا صغيرا على البشرة وبالكاد يخرج الدم منها، ثم يغطى المكان بقطعة قماش مبللة بمحلول من الماء وسائل مأخوذ من بثور الجدري، وكانت هذه الطريقة معروفة لدى الدول الشرقية وجُلبت إلى انكلترا في العام 1718 من الامبراطورية العثمانية بواسطة السيدة ماري ورتلي مونتاجو زوجة السفير الانكليزي في اسطنبول، والتي لقحت اطفالها بنجاح.
وكانت هذه طريقة ديمسدال التي استخدمها مع كاثرين الثانية في 12 تشرين الاول من العام 1768. واُخذت مادة اللقاح من ساشا ماركوف وهو طفل بعمر ست سنوات، إذ اُحضر ساشا ليلا وهو نائم ملفوف ببطانية إلى القصر الملكي عبر ممر سري إلى غرفة كاثرين، ونُقلت بلازما الدم المصابة من ذراع الصبي إلى ذراع كاثرين، لتغادر بعدها على الفور إلى تسارسكوي سيلو.
 
توثيق حالة الامبراطورة
كان توماس ديمسدال وابنه يتابعان حالتها، وذكر في يوميات كان قد احتفظ بها عن الحالة: «لقد نامت الامبراطورة جيدا في الليلة التي تلت التطعيم، وكان هناك ألم طفيف وتسارع بالنبض، لكن الحالة بشكل عام ممتازة، أما الطعام فكان من الحساء والخضروات والقليل من الدجاج».
وفي 18 من تشرين الاول، شعرت كاثرين بارتفاع درجة الحرارة وفقدت شهيتها، وبدأت بثور الجدري بالتشكل على جسمها، ومع انها كانت مغمى عليها وآلام في حلقها، لكنها تعافت تماما بعد عشرة ايام. ولم يحتج ديمسدال لعربة الهروب، وفي الاول من تشرين الثاني اُعيدت كاثرين إلى سانت بطرسبرغ لتتلقى التهاني في بلاطها. وفي اليوم ذاته، تم تلقيح القيصر بافل بيتروفيتش بنجاح ايضا. تمت مكافأة ديمسدال وابنه ببذخ، إذ منحا كلاهما لقب البارون الروسي، وتسلّما مكافأة قيمتها ألف جنيه استرليني وألفين أخرى لكل منهما لطريق العودة، مع راتب تقاعدي سنوي 500 جنيها استرلينيا، وكان هذا مبلغا ضخما، فالاجير الانكليزي في القرن الثامن عشر كان يدخر ثمانية جنيهات سنويا، وسائق العربة قد يصل إلى 26 جنيها، ومدخرات اللورد الاول السنوية للخزانة أربعة آلاف جنيها.
ومع ذلك لم يغادر ديمسدال روسيا، حتى قام بتلقيح الطبقة النبيلة. وفي سانت بطرسبورغ، استخدم المادة التي حصل عليها من الامبراطورة والدوق الاكبر، وبهذا تحرر النبلاء الروس من التفكير بأن أمرا سيئا قد يحدث لهم بسبب اخذهم التلقيح، فأخذوا التطعيم بشكل طبيعي من السوائل المأخوذة من جسم الامبراطورة، وكما ذكر ديمسدال فانه ذهب إلى روسيا وقام بتلقيح ما يزيد عن خمسين شخصا من طبقة النبلاء. ولدى مغادرته روسيا حمل معه مجموعة قطع فنية فاخرة منحها له النبلاء الروس كهدية عن تلقيحهم، لأنه وفق 
عادات ذلك الزمن لا يمكنهم دفع الاموال لديمسدال، فحصوله على لقب البارون ومُنحه الاموال يعني انهم اغدقوا عليه بالهدايا الثمينة.
وبعد عودته إلى انكلترا، اصبح ديمسدال ثريا جدا فتمكن من فتح بنك فضلا عن عيادة لتلقيح الجدري. ثم عاد إلى روسيا في العام 1781 لتطعيم كونستانتين وألكسندر ابناء بافل بيتروفيتش.