د. أحمد الزبيدي
لم يجانب ابن رشيق القيرواني الصواب حين ذكر رواية عن احتفاء القبيلة بولادة شاعرها: (كانت القبيلة من العرب إذا نبغ شاعر فيها أتت القبائل فهنأتها وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس ويتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهم وذبٌ عن أحسابهم وتخليدٌ لمآثرهم وإشادة بذكرهم وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج)، وبعض القبائل تسدّ العوز الشعري بالنحل والانتحال، وهذا ما أخبرنا به ابن سلام الجمحي (فلما راجعت العرب رواية الشعر استقلّ بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم وأشعارهم، وأرادوا أنْ يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسن شعرائهم ..) هكذا - إذن - القبيلة تسوّق خطابها عبر أعلى المستويات الثقافية العربية (الشعر) وكم قبيلة نعرفها بشعرائها؟!
ولم يكن الإسلام الذي حاول أنْ (يقيّد) الشعر تحت وطأة تعاليمه، بمنأى عنه، فالمركزيَّة العربيَّة الثقافيَّة والسياسيَّة بدأت بتشكل الخلافة ومهدت لها النبوة التي سوّقت (قدسيَّة) الشاعر المجند لها: حسان بن ثابت يتكلم وروح القدس معه! ويحثه النبي بأمر (أهجهم وروح القدس معك) وهذا ما صنعته الخلافة الأمويَّة والعباسيَّة، إذ قدّمت مثقفيها (شعراءها) الذين جندتهم لتسويق خطابهم: (أتته الخلافة منقادة إليه تجرّر أذيالها) فالنص دعم للقدريَّة ووجوب طاعة (ولي الأمر) الذي يحكم باسم (السماء)، وقتلت وحرقت جنود الخلافة الأمويَّة. ومن هنا فإنَّ فاعليَّة الخطاب الشعري في الثقافة العربيَّة هي من توقظ ذهن السلطة إلى توظيفه لما يدفع بأفكارها إلى المتلقي ليكون قناعاً جمالياً له سحر التأثير والتجميل.
وحين أنشبت الإيديولوجيات السياسيَّة أظفارها في الجسد العربي مع بدايات تشكل الدول العربيَّة لم تستغن عن آلية تسويق مثقفيها المنتمين إليها، فتصدّرهم وتعلو من شأنهم: للشيوعيين شعراؤهم الذين يرفعهم الرفاق على الأكتاف وهم يهتفون بنسقٍ ثوري وللقوميين قوم من الشعراء يصدحون بقدسية الوحدة العربيَّة، ولعلَّ الإيديولوجيَّة الأكثر مركزيَّة في الحياة السياسيَّة والثقافيَّة العراقيَّة هي المركزيَّة البعثيَّة التي أنتجت طبقة كبيرة من المثقفين والشعراء المجندين لخدمة خطابهم بشتى المجالات ومنها الحربية: وهل لديهم همٌ أكثر من (الحرب)؟ حتى ارتدى بعض الشعراء الرداء الزيتوني والحزبي والحربي وهم يهتفون باسم القائد الأوحد فظهر مصطلح (شاعر أم المعارك) ولكن هل انتهت هذه العسكرة الشعريَّة مع نهاية الدكتاتوريَّة والحزب الواحد؟
أعتقد أنَّ التعددية المركزيَّة والهوياتيَّة والإثنيَّة والإيديولوجيَّة ولّدت حزمة من الفئات الثقافية الخادمة لها، إذ لم تتخل الأحزاب الحاكمة عن آلية التجنيد الشعري والثقافي ومن ثم نجد (الشعراء الجنود) أصبحوا ملك تلك الأحزاب يهتفون بقدسيتهم وشرعية وجودهم! وحين تموت الأيديولوجية أو تضعف (يتسرح) الجندي الشعري من خدمته من دون تقاعد يضمن وجوده بل يضمن حياته، لذا فمنهم من نقل خدماته الشعرية إلى حزبٍ آخر ما زال على قيد الهيمنة..
ولكن أينطبق هذا الحكم (التعسفي) على (الشعر) أم على الشاعر؟ فمشهدنا زاخرٌ بالأسماء الشعرية - والحمد لله - ولكن ما عدد الشعراء المعرفيين والمثقفين والمدنيين والمتحررين والتنويريين، الذين بقيت قاماتهم الشعرية شاخصة بعطائها رغم انتهاء المرحلة الإيديولوجية التي كانت تحاول استقطابهم أو استقطبتهم فعلاً أو كانوا مؤمنين بها؟ في رأيي الشخصي انَّ ما يحمله الشاعر من رزانة أسلوبيَّة ورفعة ثقافيَّة وتراكم معرفي هو من يقوده إلى غسل غبار الإيديولوجية، فهم شعراء مؤثرون واستطاعوا أنْ يحققوا تحولات شعريَّة وأسلوبيَّة أصبحت سُننًا لشعراء آخرين، وقد لا أؤمن بظاهرة الأجيال الشعرية العشرية لكنني مؤمن بما أنتجته بعض الأصوات المتفردة من منجز أغنى الثقافة العربية ورفع سقف حداثتها ومن هذا المنطلق فإنَّ جلبابه السياسي كان ضيقًا عليه فمزقته قريحته الشعرية وقامته الثقافية التي اتخذت من كوامنها الداخلية منطلقًا للخلود، وإنْ كانت السلطة قد أغدقت عليه العطاء فإنه عطاءٌ لا يورَّث بعد موتها.. وما أصدق قول الخليفة عمر بن الخطاب حين قال لقوم هرم بن سنان وهم يتفاخرون بجزيل عطائهم لزهير بن أبي سلمى (لقد ذهب ما أعطيتموه وبقي
ما أعطاكم).
ويمكننا أنْ نختصر الكلام بمعادلة رياضية ذات تصور فلسفي: (كلما قويت المعرفة ضعفت الهيمنة الإيديولوجية وكلما ضعفت المعرفة قويت الهيمنة الإيديولوجية!)، إذنْ كلما كان الشاعر متسلحًا بالقوة المعرفية والجمالية والثقافية كلما كان حجمه أكبر من (التجنيد
الشعري).