د.عبدالحسين علوان الدرويش
كان يشكو دائماً من عسر الهضم بسبب سوء التغذية, والذي يؤدي حتماً الى كثرة الغازات المعوية, لذلك كان السبب الرئيسي لإصابته بإمساك مزمن, وعليه يلتجئ خِلسةً بعيداً عن ترصد عيون أولاده, الى شراء قنينة بيبسي من محل بقالة (أبو كاظم), الذي يبيع بضاعته بثمن بخس, حيث سعر قنينة البيبسي الواحدة المبردة بخمسة عشر فلساً, حتى يتنفس الصعداء, وهو يقوم بشرب القنينة بتأنٍ عجيب, حيث يجلس على العربة اليدوية ذات ثلاث عجلات, المركونة قرب المحل, وكلما يرتشف قليلاً من البيبسي, ينظر بافتخار الى القنينة, التي ما زالت ممتلئة حتى النصف, حتى تكتمل هذه الطقوس الخاصة به, بأن يظل يتجشأ الغازات المسيلة للدموع, التي تكاد أن تحبس انفاسه, لولا هذا التجشؤ وهو علامة من علامات الانتصار وانتهاء طقوسه المعتادة يومياً, بعد صلاة العشاءين, واذا اضطر بجلب القنينة الى البيت, وما حيلة المضطر إلّا جلبها واخفاؤها بسرية تامة, مثل الذي تأبط شراً, ثم انكشف أمره من قبل أولاده, وتم رصد القنينة المخبأة مع سبق ذيوع الخبر وانتشاره في بيته الصغير, فدق جرس الانذار المباغت لدخول القنينة العزيزة, التي لا ترى إلّا في الافراح والليالي الملاح, ولا تُقدم إلّا لصاحب خطوة أو ضيفٍ عزيز, وعندما شاهدوا اباهم متلبساً بشرب تلك القنينة تجمعوا من حوله, صغيرهم وكبيرهم, محلقين محدقين به, وكاد أبوهم يسمع صوت أنفاس أولاده الصاعدة والنازلة مع كل رشفة من فم القنينة, ترتفع نظراتهم مع ارتفاع القنينة الى فم ابيهم, لا يغادرون أمكنتهم المحيطة به, ولا يضيعون لحظة من النظر الى القنينة السحرية الفائقة الطعم واللذة, ينتظرون بفارغ الصبر, أن يجود عليهم أبوهم بشيء قليل من البقية الباقية, وهكذا تبقى رؤوسهم ترتفع وتهبط تبعاً لحركة القنينة السوداء ذات النكهة والرائحة المعروفة من سابع جار .
وكان أهم ما يثير أولاده المتربصين من حوله, تلك الرغوة الغازية, التي تحيل محتواه المغري الى فقاعات تفيض من رأس القنينة عند فتح الغطاء (السيفونة), حيث كان (أبو كاظم)، يحفظ قناني البيبسي في ثلاجة خشبية , بعدما يرصها جميعاً بعناية فائقة في قاعها البارد, ومن ثم يضع قالب الثلج المكسر فوق وما بين القناني المنتظمة, وبعد هذا تغطى بكيس سكر فارغ زنة خمسين كيلو غرام, إضافة الى ذلك يقوم أبو كاظم برش كفين من الملح الخشن, حتى يحافظ الثلج على صلابته من الذوبان.
رغم ما مر به مشروب (البيبسي) من انتكاسات أثناء الحصار اللعين, بسبب عدم توفر المواد الأولية في السوق العراقية, فكانت هناك بدائل أخرى, لكنها سيئة الصيت أثرت على سمعة البيبسي العالمية, فمرة صنعوه من غير مادته الغازية, ومرة أخرى استخدموا التمر بديلاً للسكر, والطامة الكبرى ما حدث في التعبئة اليدوية, والذي يباع عند الباعة المتجولين, بحيث يقلد البائع صوت خروج الغاز المزيف من القنينة عند فتحها . طا طا ق ق طاق ...
وعندما قام أبوهم بشرب القنينة عن آخرها, وهو يرد على كل نظرات أولاده الحاقدة والحانقة, بثلاثة أو أربع تجشآت , ذلك هو اعلان انتصاره الكاذب على خسارتهم الفادحة الكامنة في داخلهم.
وعند ذلك ينفرط الجميع خائبين منكسرين, ترهقهم ذلة الحرمان من نكهة وطعم البيبسي الذي لا ينسى.