دور السينما في الناصرية.. أمكنة خاوية غادرها الجمال والمرح وتحولت إلى هياكل متآكلة

ريبورتاج 2021/02/24
...

   احمد داخل 
 
تختزن الذاكرة الجمعية بالعديد من الصور والمشاهد عن امكنة، كانت في يوم ما تبث الجمال والمرح لما تستقبله من جمهور هاوٍ ومهووس لديه رغبة التطلع ومشاهدة ثقافات الاخر من خلال ما تعرضه الشاشة الفضية من افلام ولمختلف المواضيع الانسانية، واصبحت اليوم خراباً وغادرها روادها، فأمست هياكل خاوية يلفها النسيان وتفوح منها رائحة الرطوبة والخزن، لأنها تحولت الى مخازن ومرائب للسيارات في مشهد ينذر بتحولات لا لشكل المكان فحسب، بل تحول في الرؤية بإهمال واحدة من القنوات الثقافية المهمة في المجتمع، هذه نهاية قصة دور العرض السينمائي في الناصرية.

الاربعينيات كانت البداية
يقول المواطن باسم محمد عباس الذي يقطن بالقرب من احدى دور السينما في الناصرية منذ نشأتها "تأسست سينما الاندلس في عام 1947 وقد سبقتها بعام سينما البطحاء، وكان مالكها حمودي بن الحاج طالب احد التجار المعروفين في ذلك الوقت، وقد شكلت في حينها تحولا ملحوظا في واقع المدينة الثقافي من خلال ما تعرضه من الافلام التي كانت تحاكي الواقع الاجتماعي والثقافي، وكان للاسرة العراقية حضور لافت، اذ كانت صالة المشاهدة الكبيرة والواسعة التي تستقبل المئات من الجمهور الذين تنتابهم الدهشة والسرور، وكانت مقسمة الى ثلاث فئات: فئة (40) فلساً وتسمى الادنى وفئة (100) فلس وهي الدرجة الوسطى، اما فئة  (250)  فلساً، فكانت في الطابق الثاني مخصصة للاسر وتسمى (اللوج)، وكانت طريقة عرض الافلام تراعي الذوق العام من خلال وجود رقابة من ادارة السينما تقوم بقطع اللقطات التي تخدش الحياء، فهي كانت بحق وسيلة ترفيهية الى جانب كونها وسيلة للتعرف والاطلاع على ثقافات الاخر من خلال عرض الافلام الاجنبية والعربية ولمختلف المواضيع الانسانية". 
 
مؤسسات متكاملة
ويصف باسم محمد عباس دار السينما ويشبهها بالمؤسسة المتكاملة من ناحية ادارتها، فهناك مدير ادارة وموظف مخصص لقطع التذاكر ومشغلو الافلام الذين يتناوبون على العمل واشخاص للصيانة ومصممون للديكور وشخص مختص للإضاءة، ويتابع عباس حديثه ليشرح كيفية الترويج والدعاية للأفلام التي تروم دار السينما عرضها فيقول: "عادة يأتي بوستر خاص مع شريط الفيلم فيه صور واسماء ابطال الفيلم فيقوم شخص بالترويج بواسطة عربة الربل التي تجرها الخيول، ليطوف في كل ازقة وشوارع المدينة، بعدها تطور الحال في منتصف الستينيات والسبعينيات بعد أن تأسست في مدينة الناصرية مطبعة، تتم فيها طباعة العديد من نسخ البوستر الاصلي للفيلم، ليقوم اشخاص يطوفون شوارع المدينة بعرض ملصقات الفيلم، وتثبيت البعض منها على جدران البنايات العالية من اجل الترويج والدعاية للفيلم الجديد المراد عرضه، وعادة ما كان هؤلاء الاشخاص يتصفون بخفة الدم والحركة، ويمتهنون النكتة والمزاح ولديهم اسماء فنية مثل محمد (طرزان) واسماعيل (كوزان)".
 
تحفة فنيَّة نادرة
يحتفظ باسم محمد عباس بصور ومشاهد ما زالت عالقة في ذاكرته عن معدات السينما وكيف تعمل؟ وكيف باستطاعة هذا الشعاع المنبعث من عدستها الذي يسقط على قطعة القماش البيضاء، أن يكون صورا متحركة ناطقة؟ فيقول: "كنا صغارا وكانت تبهرنا هذه المشاهد، عندما نرى هذه الماكينة التي فيها ذراعان، ومثبتة في كل ذراع اسطوانة مصنوعة من الحديد (الآهين) يتوسطهما شريط الفيلم الذي يمر بعدسة كبيرة تكون في مقدمة الماكينة مع ضوء مسلط على العدسة، وتوضع هذه الماكينة في السطح العلوي للصالة في غرفة صغيرة مفتوحة باتجاه القاعة، وترسل هذه العدسة بشعاعها على قطعة قماش بيضاء كبيرة بطول 10م × 5م موضوعة على احد الجدران البعيدة للصالة الواسعة، حقاً انه منظر مدهش والماكينة هي عبارة عن تحفة فنية نادرة".
 
نافذة حضاريَّة
يقول الباحث والشاعر حسن عبد الغني الحمادي "كانت المدينة في الماضي لا تضم في ثناياها الا المجالس والدواوين والمقاهي، والازقة الشعبية البسيطة، واذا بحدث جديد يدخل المدينة من دون مقدمات الا وهو افتتاح صالات للعرض السينمائي، ويصور الحمادي (الحدث الجديد) الذي بدأ بشاشة بيضاء كبيرة وعتمة المكان الى اشخاص يتحركون ويتكلمون ويتداخلون في حوارات ذلك النبض الروائي- الحكائي، وتلك لذة ونشوة المشاهدة والاستماع، ويتداول اهل المدينة عن اجواء السينما ومشاهدة الرواية- الفيلم- وينطلق النقاش الجميل والعفوي في تحليلاتهم المتواضعة لسرد الحدث الروائي، ويتجدد ذلك الشغف عند الناس بانتظار الجديد من الافلام المعلن عنها في لوحات العرض، انه بالتأكيد تحول كبير في مفردات الحياة والمعيشة، حقا انها (السينما) نافذة حضارية ادركها اهل المدينة منذ وقت بعيد". 
 
مواقف ومفارقات
ويتابع الباحث حسن عبد الغني الحمادي سرده عن ذكرياته ايام زمان مع عالم السينما في الناصرية فيقول: "ثمة مواقف ومفارقات كانت تصادفنا ايام العروض السينمائية، فحين يقصد الناس صالات العرض لمشاهدة  فيلم ما، هزهم اسمه وبطله، خصوصا الابطال الذين كانوا يسمون ممثلي (شباك التذاكر)، واذا بالمشاهدين يتفاجؤون بعرض فيلم آخر غير الذي قصدوه، والذي تم الاعلان عنه، وهنا تصدر الاعتراضات  من الجمهور داخل صالة العرض، فما على ادارة السينما الا ان تأخذ دورها في تهدئة الجمهور وتلطيف الاجواء، فيعود المشهد الى طبيعته، ويستغرق الناس بمتعة المشاهدة، او تصادف حالات اخرى هي القطوعات التي تحصل اثناء العرض، والجمهور مندمج مع تتبع احداث الفيلم، فترتفع الاصوات والاعتراضات من قبل المشاهدين لإعادة الفيلم وتصليح القطع بشكل سريع، ما يدفع المشاهدين للصياح والمطالبة بعودة العرض، فيبادر العاملون في السينما الى تدارك الخلل واعادة الامور الى طبيعتها". 
 
الأفلام الهنديَّة هي الرائجة
يقول الفنان حمدان حسن البدري "لقد نشطت حركة السينما في السبعينيات تحديداً بظهور جيل يمتلك الوعي والذائقة ولدى شرائح مختلفة من العمال والكسبة والطلاب، وهذا اثر ايجابا في جعل الفنون ترتقي الى جانب السينما ونشأت في العراق حركة السينما وارتقت الى مصافي دول مثل لبنان ومصر، اما في الناصرية فتوسعت الرقعة لتشمل الاقضية والنواحي، واستمرت حتى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي"، ويتابع البدري حديثه فيقول: "كان هناك تنافس بين دور العرض في الناصرية، في تلك الفترة مثلا كانت سينما البطحاء تعرض الافلام الاميركية الكابوي (الوسترن)، وتقابلها سينما الاندلس بعرض الافلام الهندية، وكان الاقبال على الافلام الهندية كونها مزيجا من الواقعية والخيال والحركة والايقاع الراقص، فهي مفضلة عند الشباب في تلك الفترة، لكنها تراجعت في التسعينيات بسبب ظهور الكاسيت والفيديو اللذين دخلا الينا من دول الخليج، ففضلت الاسرة العراقية المشاهدة في البيت، ما ادى الى تحول دور السينما الى الانشطة التجارية كمخازن ومرائب للسيارات، واختفت  دور العرض واحدة بعد الاخرى، بعد أن كانت لدينا في مركز المحافظة خمس دور هي: الاندلس الشتوي والصيفي والبطحاء الشتوي والصيفي وسينما الشعب".
 
الشاشة الفضيَّة
ويبين الاكاديمي في الفن التمثيلي امير صبيح "ثمة اسباب اخرى كانت وراء تراجع دور العرض السينمائي في العراق عموما والناصرية على وجه الخصوص، فبعد عام 2003 لم يول المعنيون في الدولة اهتماما بواحدة من القنوات الثقافية المهمة وهي (السينما)، فضلا عن  دخول جهاز الستلايت الذي ينقل القنوات المشفرة وغير المشفرة التي تعرض لك الفيلم الحديث قبل نزوله في صالات العرض، او بعد نزوله بمدة قصيرة، وهذا الامر ادى الى انعزال المشاهد في البيت  لمشاهدة الفيلم السينمائي مع الاسرة، ما ادى الى فقدان الذائقة الجمعية في مشاهدة الفيلم السينمائي، ومن ثم فقدنا واحدة من القنوات الثقافية المهمة في المجتمع، فالشاشة الفضية  لها دور في ترسيخ الوعي الثقافي، كما الرواية والقصة والمسرح والفنون الاخرى ودورها في استقطاب الشباب وتطوير مواهبهم الثقافية، وسحبهم من الشارع وعدم انخراطهم في التجمعات المتطرفة او الانحراف او التسكع، لذلك تعمل السينما بشكل خاص على توعيتهم من خلال عرض فيلم سينمائي يثير الجدل ويجعل المجتمع صالحاً للحياة، وحسب ارسطو "ان الدراما هي اثارة الشفقة، لأنها تعمل على بلورة المجتمع وتساعد في نقل الكتابة الدرامية الى صورة مجسدة، تبقى مخلدة مشاهدها في الذاكرة".