لوحة رامبرانت الأخيرة

ثقافة 2019/02/04
...

جمال العتّابي

كان محضر وفاة الرسام الهولندي رامبرانت(1606-1969)موقعاً عليه بإمضاء خادمته والطبيب كشاهدين، وجاء فيه: سرير قديم غير متماسك من خشب، وسادة واحدة متّسخة، لحاف متهالك لا يمكن بيعه، مائدة خشبية ذات أربع أرجل مفككة، مقعد ذو رجل مكسورة والقش متآكل، منشف واحد قديم معلق على الحائط، إطارات فارغة مركونة في زاوية لا وجود للستائر على النوافذ .

      هذه هي مخلفات رامبرانت العظيم، وترِكته لأولاده وأحفاده، لم يكن باستطاعة رامبرانت في أيامه الأخيرة سوى التجوال في مرسمه كل صباح لمدة ساعتين، ثم يهرع إلى الفراش، ونادراً ما كان يغيّر ملابسه، إذ كان ينام بثوبه القديم الملطّخ بالألوان الذي يرتديه أثناء عمله، مَثله في ذلك الجندي اليائس المهزوم الذي يفضّل رغم ذلك، الموت في الميدان بردائه العسكري الممزق .
في الأيام الأخيرة من حياته أكمل رامبرانت صورته الأخيرة، أراد أن يبعث فيها روحاً أزلية لاتموت! وكان صديقه وطبيبه (جان فان لون) يسأله أحياناً عمّا إذا كان يريد أن يقرأ له، ولكنه كان يرفض، فقد كان يريد أن يخلو إلى أفكاره، وذات مرّة قال له: أريد أن تقرأ لي قصة صراع يعقوب من التوراة، وبدأ صديقه يقرأ له بصوت خفيض ومتهدج، فقد كان يعلم ان حالة رامبرانت سيئة، وبمجهود مفاجئ، حاول رامبرانت أن يرفع رأسه من الوسادة، ولكنه لم يستطع، وحدّق في وجه صديقه الطبيب بيأس متسائلاً عن إجابة لن تأتي أبداً، وقال: يعقوب !! لن يكون اسمك (يعقوب) بعد الآن، سيكون رامبرانت، وإنكفأ رامبرانت على صدره، وهو يقضم أظافره الملوّثة بالحبر والألوان، شكراً لله ..لقد نام ! قالت الخادمة، فأجابها الطبيب: شكراً لله حقاً ! فقد مات .
      هذا البورتريت كان آخر أعمال رامبرانت التي صوّر فيها نفسه، وكانت عادته كلّما داخله الشك أن يذهب للمرآة ويرسم وجهه، ولكن هذ العمل يختلف عن كل أعماله التي رسمها لنفسه، إذ يعبّر لنا عن نوع من الانتصار على كل ما عاناه من متاعب وصراع، اللوحة تظهر كقناع يبتسم في تهكم معبّراً عن الآلام الداخلية، قناع يخرج من الظلمة، يغرقه ضوء المساء الذي يجعله يلمع بتراب الذهب، نفس الذهب الذي يتوهج في معظم لوحات رامبرانت، إنها ليست لوحة، بل إضاءة واهنة الاحتراق على وشك الخمود، هي الرّجفة المرّة لعبقري في صراعه الأخير مع الحياة، استطاع رامبرانت أن يتفوق على نفسه، وأن يقول شيئاً كبيراً بنسيج اللوحة، وعجينة اللون فقط .
      رامبرانت أحد أشهر الرسّامين في العالم، كان يلقّبه الشاعر الألماني (غوته) بـ (المفّكر)، لأنه كان لا يرى الشخصيات الرئيسة في لوحاته، بل الأشكال الثانوية المحاكة بدقّة، إذ يمكن من خلالها إعادة بناء الحدث المرسوم بوضعية معاصرة، ويعدّ رامبرانت من أهم الرسّامين الذين شغفوا بتصوير أنفسهم، فأنجز عشرات الأعمال لشخصه، سجّل فيها يفاعته وشبابه، ونضجه، وشيخوخته بكثير من الدقة والأمانة، راصدا بذلك حركة الزمن الثقيلة فوق ملامح وجهه، وانعكاساتها على دواخله، وهذه الحقيقة، تفرّد بها عن غيره من الفنّانين.
 ظهرت موهبة رامبرانت في الرسم ونمت بوقت مبكّر، كاشفاً عن مشروع فنان حقيقي، يعدّ من قمم الفن العالمي الرفيعة والمتفردة، على الرغم من أن ما أنتجه يعد قليلاً، قياساً لهذه الموهبة، ومقارنةً مع فنانين آخرين، لكنها كانت كافية بمستواها وقيمتها الفنية العالية، ليعدّ فناناً مبدعاً ومجدداَ بامتياز، ظل طوال حياته لم يغادر عوالم التخيل والابتكار، ومسكوناً بهاجس اجتراح فعل الفن حتى النهاية، اهتم بالضوء والظل، بمعالجة متفردة، إذ يرى العالم من خلال منظوره الخاص، وبين الظل والضوء مسافة تستطيع أن تخفي كل الوجوه، إلا وجه من يحب، ويوصف بأنه فنان العتمة التي تظهر في جميع أعماله، ليمنحها مفهوما آخر في قوتها التعبيرية وتميزها، كما كان أعظم مترجم للشخصية الإنسانية، في دراسة ملامحها بعمق، والنفاذ إلى طباعها وعواطفها وأحاسيسها، يبحث بأناة وعمق وتمهل عن الأشياء، فهو يجمع في يدٍ واحدة خيوط التعبير عن الدواخل .
     عاش رامبرانت حياة الحب والعشق، حياة متناقضة بشكل حاد، من الثراء والترف، إلى الفقر والمرض والديون وفقدان الأحبة، ويتنافس أصحاب الأموال الآن  لشراء أعماله بعشرات الملايين من الدولارات .