عذراً معلمي الأجيال

منصة 2021/02/27
...

  د. عواطف نعيم 
أحياناً تختلط الأفكار وتتزاحم وأجدني أبحث عما فقدت! وأبدو مهمومة حد الحزن الذي يتجذر في القلب لأجل ما فقدت، ما هذا الذي فقدته؟ أتساءل مع ذاتي وقد انتابني الخوف عماذا أبحث؟ وجوه؟ أسماء؟ عناوين؟ أماكن؟ أتوجه إلى مكانٍ بعينه يعيش في ذاكرتي ويستحثني للمجيء إليه، أثناء سيري أتوقف ثم أعود إلى داري وقد ساورتني الظنون، هل هو موجود؟ ذاك المكان؟ وهل هم موجودون؟ أولئك الأشخاص؟ أينهم إذنْ في الأماكن التي تعودت لقاءهم فيها! لأنَّ الأماكن هي الناس الذين تعرفهم وتودهم، هم من يمنحون تلك الأماكن لونها، بهاءها، روحها، ووهج متعتها، لا وجود سوى الذكرى والصور وعبق الحكايا وبقايا القهقهات ولوعة الشوق إلى الإحساس بدفء مشاعرهم وألق كلماتهم ورنة أصواتهم وهم يتحدثون، يتجادلون، يتعاندون، ثم بعد ذلك تعلو أصوات ضحكاتهم، ما عادت قدماي تأخذانني إلى الطابق العلوي حيث يقطن أستاذي يوسف العاني حين كنت أذهب لزيارته وأتحدث إليه في موضوعات شتى أهمها وأبرزها المسرح، تقاليده وأخلاقياته والإرث الثقافي الكبير الذي يتمّثله عبر عروضه وكتاباته وحركة الكبار فيه من مخرجين وكتاب وممثلين وتقنيين ومن مريدين ومتابعين ومولعين بهذا الساحر الجميل الحابس للأنفاس (أبو الفنون)، كان الحديث الى الكاتب يوسف العاني ثقافة بحد ذاتها فهو موسوعي وعارف وقادر على فتح نوافذ المعرفة والفهم والفلسفة التي ترضي ما لدي من نهم للتعلم والاستزادة والتنور، وهو إضافة لما يتمتع به من معرفة وثقافة فإنه قادرٌ على بث روح النكتة والبهجة وإشاعة المرح في أي مكان يحل فيه، ليس هناك من يستطيع أنْ يمنحنا ما منحنا إياه هذا العبقري في فنونه وتعداد مواهبه، ولا أهدأ، إذ يلح السؤال الحارق ثانية، أين أجد الكبير سامي عبد الحميد؟ تهمس الأصوات في أذني عماذا تبحثين أيتها المجنونة؟ لقد غادر! الى أين؟ الى حيث النهايات الحتميَّة لبني البشر جميعاً، سيكون وحيداً وهو الذي يهوى مجالسة طلابه ومناقشة ما قرؤوا وما تعلموا وما يدور في أذهانهم من أسئلة مهما كانت غرابتها أو جرأتها أو تنوعها، لم يكن وحده حين ذهب؟ من معه من الأصحاب والأحبة؟ معه العديد من المبدعين الكبار، الذين أثروا الحراك الفني والثقافي في أرض السواد، معه من رسّخ ركائز المسرح العراقي ووطّد مكانته وجعله مدرسة للتنوير والمتعة والنضال، معه من حوّل فضاء المسرح الى فضاء للمعرفة والتوادد والحرية، معه كبار رجالات المسرح، طه سالم المبدع الكبير الذي ولج عالم اللامعقول والعبث بنصوص مسرحيَّة سبق بها عصره وأرّخ من خلالها الواقع السياسي للوطن، قاسم محمد الناحت بازميل المحبة في مشاعر الممثل وحركته، الذي جعل فن الأداء التعبيري فناً ساحراً باعثاً للدهشة وكاسراً للتحفظات والمخاوف، خليل شوقي العفوي حد العجب في تحولاته الذي يحسن التنقل ما بين الضحكة والدمعة، ما بين الجد والسخرية، ويمسك بمشاعر المتلقين فلا تغفل عيونهم عنه، جعفر السعدي سيد البساطة البليغة والطيبة المتناهية اللاعب على أوتار القلوب المتابعة لسحر الأداء في اللغة العربية وجمالها.
هؤلاء معاً يجتمعون ويتبادلون الأحاديث ويطمئن بعضهم بعضاً أنهم تركوا خلفهم نهضة مسرحيَّة وثورة فكريَّة ورغبة للتحديث والتجديد يقودها تلامذة أكفاء ومنتمون ماهرون لهذا الصرح العظيم الذي اسمه المسرح، لكنهم نسوا أنهم حين غادروا تركوا فراغاً كبيراً ويباساً في الحياة بعدهم، فالأماكن بعدهم خالية والمشاعر متجمدة والضحكات ما عاد لها طعم براءة الطفولة وعذوبتها. 
أيها المعلمون عذرا ليس من السهولة أن نستقبل خبر مغادرتكم بكل هذا التسليم ونفّض اليدين رغم أن هذا الغياب وعد حق، لذا نحتاج الى التذكير بكم وأحياء ذكراكم وتجديد تقاليدكم التي جعلت من المسرح صرحاً معرفياً وضرورة اجتماعية، لهؤلاء الكبار الذين غادرونا وأورثونا فناً حضارياً ووجهاً للوطن يعّرف العالم به، نقول إنَّ الأماكن التي غادرتموها ما زالت شاغرة تحمل عبق ذكراكم وعبقرية اجتهادكم وجمال أرواحكم، لم تغادروا فما زالت الأماكن تحفظ تراثكم رغم كل الظروف العصيبة والتحولات الصعبة التي تهز راحة البال وهدأة السكون وأمان الأرواح، لكم كل الاعتذار لما نكون قد ارتكبناه من أخطاء من دون قصد منا بحق قاماتكم الباسقة وهممكم العالية ووطنيتكم المزكاة، ولكم كل الشكر لما منحتمونا من متع وبهجة حضور حين أضأتم أيامنا وجملّتم ليالينا وزرعتم في نفوسنا روح النضال وتمجيد الإنسان.