يوماً بعد يوم تزداد سطوة الشركات الكبرى - باختلاف تخصصاتها - على حياتنا، لا سيما تلك التي تهتم بالتكنولوجيا، إذ لم يعد بإمكان أيّ منا الاستغناء عن جهاز الموبايل مثلاً، ولا عن أجهزة الكمبيوتر!.. نتحدث هنا عن أدوات خاصة ترافق الإنسان وتمسه مباشرة، أما الحديث عن التجهيزات والتقنية العملاقة والأكبر حجماً، والتي باتت تسيّر أمور بلاد بأكملها، فذلك حديث آخر، هذا الاستلاب الفظيع الذي يعيشه إنسان هذا القرن، تحول إلى ما يشبه العبودية، حين أصبح الإنسان عبداً للتكنولوجيا، تتقاذفه وتتحكم به تقنيات تتجدد كل ثانية من عمره.
استطاع الإنسان من خلال الثورة الصناعية والفكرية وعصر التنوير، ولاحقاً التطور التقني والتكنولوجي، أن يحقق قفزات وخطوات كبيرة في طريق التحرر من الجهل والعبودية، وأصبح بإمكانه معرفة الكثير وزيادة سعة اطلاعه ومعارفه والخوض في ما كان ممنوعاً عنه، سواء بسبب السلطة السياسية أو الدينية أو حتى الاجتماعية.
بفضل هذا التطور كسر قيوداً كثيرة كانت تكبله وتعيق حركته وتحرمه من معارف وعلوم عديدة، لكنه لم يدرك أنه في المقابل إنما يدفع وسيدفع أثماناً باهظة، مادياً ومعنوياً، حينما يخطو خطوات تجاه عبودية من نوع جديد، عبودية متطورة وبلباس وأدوات جديدة!.. جهاز الهاتف على سبيل المثال، نمضي معه وقتاً أكثر من ذلك الذي نقضيه مع الأسرة والأصدقاء، نتفحصه كل ثانية، نحرص عليه من السقوط، وننزعج إن اقترب أحد منه، هذا الجهاز الذي لا يتجاوز حجمه كف اليد، يتحكم بنا ليل نهار، يقدم لنا كل ثانية شيئاً جيداً ويدعونا للدخول في برامج وتطبيقات، تأسرنا وتقيدنا بشكل مرعب.
تحولت الشركات الكبرى لا سيما تلك التي تستثمر بمنصات التواصل الاجتماعي، إلى ما يمكن تشبيهه بالإقطاعي والرأسمالي الذي يتحكم بالعبيد الخاضعين له والعاملين تحت أمرته، وأصبحت تتحكم بنا.. تحجب من لا يتوافق مع سياستها، أو يمس أحد مموليها، وحتى أنها تدخلت في الحياة السياسية للدول، وما حصل أثناء ما عرف بـ "الربيع العربي" خير مثال، فضلاً عن الدور الذي قيل إنها لعبته أثناء الانتخابات الأمريكية، أولَمْ تكن منصة تويتر منبر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ليبث من خلالها قرارته ويعلن عن سياسته، وهي التي حجبت وألغت حسابه بعد سقوطه في الانتخابات الأخيرة. كل شيء تغير في حياتنا اليوم، بفعل التطور، تحول الإنسان إلى مجرد رقم على قائمة الشركات الكبرى، ومن يدفع أكثر يحصل على مزايا أكبر، حتى أن مفهوم الفقر تبدل، فربما يأتي يوم ليس ببعيد يصبح فيه تقييم الدول الأكثر فقراً، ليست تلك التي لا تملك الموارد الطبيعية والبشرية، بل تلك التي لا تملك التكنولوجيا المتطورة، وتلك التي لم تدخل التقنيات في أعمالها، وها قد بدأ التقييم على مستوى الأفراد، فأصبح امتلاكك لأحدث جهاز موبايل دليلاً على مستواك المعيشي والاجتماعي، كما كان امتلاك سيارة قبل عقود يوحي بأنك من أصحاب الأموال.
هذا الانفجار التكنولوجي الهائل، والاستغلال الشره الذي تمارسه الشركات الكبرى، وتحكم منصات التواصل الاجتماعي، والمواقع الالكترونية بالإنسان، سيؤدي ذات يوم إلى انفجارات بشرية، وثورات على غرار تلك التي قامت ضد الحكومات فيما مضى، حين سيدرك الإنسان كم نهبت أمواله، وسلبت حريته، وأهدر وقته من أجل لا شيء، فهل يتحرر إنسان اليوم من عبودية التكنولوجيا؟.. ويكسر القيود التي كبلته بها؟.. تساؤلات تجيبنا، ربما، عليها الأيام
القادمة.