ليس هذا أوان التمحيص والتدقيق والتمييز بين (الأمنية والحلم)، ولذلك سأتعامل معها على أنها شيءٌ واحدٌ، ومعلوم أنَّ الإنسان وحده من دون الكائنات الحيَّة الأخرى، انفرد بظاهرة الأمنية أو الحلم، ويذهب علماء النفس الى القول بأنَّ هذه الظاهرة تعدُّ واحدة من أهم النشاطات الفكريَّة التي دفعت البشريَّة الى التطور المستمر حتى وصلت الى ما وصلت إليه اليوم، ويستدلون على ذلك بعشرات الوقائع، فحلم ابن آدم مثلاً في الحصول على جناحين شبيهين بجناحي الطائر يحلق بهما عالياً ويرتاد الأجواء، كان وراء الاختراعات العظيمة التي جعلته يتجاوز أمهر الطيور بآلاف المرات تحليقاً وسرعة وسياحة الى القمر والمريخ!
كثيرٌ من الناس لا تكفيهم أمنية أو أمنيتان، ومعظم الناس يموت قبل أنْ يبلغ حلمه، ولعلَّ الحكمة الشعريَّة البليغة قد أوجزت هذه الحقيقة خيرَ إيجاز (ما كل ما يتمنى المرء يدركه)، والشيء الوحيد الذي لا يمكن حصره أو عدّه هو الأماني والأحلام، لأنها تتباين من فرد الى فرد، ومن حكومة الى حكومة، ومن شعب الى شعب، بل وتتباين من عصر الى عصر ومن مرحلة عمريَّة الى مرحلة عمريَّة أخرى، ومن الذكور الى الاناث، وقد شاعت العديد من الأقوال والمصطلحات حول هذه الظاهرة الإنسانيَّة، من ذلك (فارس الأحلام)، وهو تعبيرٌ بلاغي جميل وكناية عن حلم الفتاة في الفتى (الفارس) الذي يحملها خلفه على ظهر جواده وينطلقان معاً الى مملكة السعادة... وكذلك قولهم (أحلام العصافير) وهو بدوره مصطلحٌ بلاغيٌّ جميل، وكناية عن المستحيل، وغير ذلك كثير.
ظاهرياً تبدو مفردة أمنية أو حلم، مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالرغبات الإنسانية الدفينة أو المعلنة، والتي لا تخرج أبداً عن الصور المشرقة والسعيدة التي ننتظر جميعاً حصولها اليوم قبل الغد، ولكن ما يقع في إطار معلوماتنا العامة، أنَّ هناك رغبات يمكن اختصار مسمياتها بصفة واحدة (سوداويَّة)، وسوداويتها لا تعني بحال من الأحوال أنها سيئة بقدر ما هي انعكاسٌ لمرارة صاحبها.. ولو قلبنا تراث السياب الشعري لوقفنا على الكثير، وهناك الكثير كذلك لدى غيره من الشعراء، وعلى وفق ما اهتديتُ إليه فإنَّ المتنبي بلغ بسوداويَّة الأماني ما لم يبلغه شاعرٌ قبله ولا بعده، وعلة المرارة التي ما بعدها مرارة عنده أنْ يضطر- وهو المتنبي – الى مدح رجل مثل "كافور الاخشيدي" عبر ذلك البيت الشعري الخالد (كفى بك داءً ان ترى الموت شافياً- وحسب المنايا ان يكن امانيا).
الغريب في هذا المشهد التراجيدي إنَّ رجلاً من عامة الشعب التقت به إحدى الفضائيات وسألته عن حلمه في العام الجديد (2019) فكان جوابه أعظم سوداويَّة وأشدُّ مرارة بألف مرة مما ذهب إليه المتنبي، حين قال: حلمي الوحيد أنْ يتم تبليط الشارع!!