عن ذاكرة المجتمع وتكرار أخطائنا

منصة 2021/03/13
...

  يان ليانك
  ترجمة: جمال جمعة
في 21 فبراير من العام الماضي، قدم يان ليانك، أستاذ الثقافة الصينية وأستاذ كرسيّ في جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا، محاضرة إلكترونية لصفه من طلاب الدراسات العليا عن الفيروس التاجي، وذاكرة المجتمع، وكيف سيتعامل الرواة يوما ما مع التفشي.
 فيما يلي ترجمة لتلك المحاضرة، التي نشرت أولا في ThinkChina وترجمتها إلى الإنجيزية غريس تشونغ:
عندما كنتُ صغيرًا، كنت كلما ارتكب الخطأ نفسه مرتين إلى ثلاث مرات متتالية، كان والداي يسحباني أمامهما، ويشيران إلى جبيني ويسألان:
«لِمَ أنتَ كثير النسيان؟».
أثناء دروسي في اللغة الصينية، عندما أخفق في إلقاء نصّ أدبي بعد أن أكون قد قرأته مرات لا تحصى، كان أستاذي يأمرني بالوقوف ويسألني أمام الصف كلّه:
«لِمَ أنتَ كثير النسيان؟».
القدرة على التذكر هي التربة التي تنمو فيها الذاكرة، والذكريات هي ثمار تلك التربة. امتلاك الذكريات والقدرة على التذكر هو الاختلاف الأساسي بين البشر والحيوانات أو النباتات. هذا هو الشرط الأول لنموّنا ونضجنا. في كثير من الأحيان، أشعر بأنه حتى أكثر أهمية من الأكل، وارتداء الملابس، والتنفس، فبمجرد أن نفقد ذكرياتنا، سننسى كيف نأكل، أو نفقد قدرتنا على حرث الحقول. سننسى أين تكون ملابسنا حينما نستيقظ في الصباح. سنعتقد بأن الإمبراطور عاريًا يبدو أفضل مما هو عليه عندما يكون كاسيًا. لماذا أتحدث عن كل هذا اليوم؟ لأن الفيروس التاجي (الكارثة الوطنية والعالمية) لم يتم احتواؤه بالفعل؛ العوائل ما تزال ممزقة وصرخات تخلع القلب تدوّي في جميع أنحاء «هوبي» و»ووهان» وأماكن أخرى. ومع ذلك، فإن أغاني النصر يتردد صداها منذ الآن في كل مكان. كل ذلك لأن الإحصاءات بدأت تتحسّن.
الجثث لم تبرد بعد وما زال الناس في حداد. ورغم ذلك، فإن أغاني النصر جاهزة لتصدح والناس يستعدون للتبجّح، «أوه، يا لها من حكمة وعظمة!».
منذ اليوم الذي دخل فيه الفيروس التاجي حياتنا حتى الآن، ونحن لا نعلم بالضبط عدد الأشخاص الذين فقدوا حياتهم بسببه، ولا عدد الذين ماتوا في المستشفيات، وعدد الذين توفوا في الخارج. لم تتح حتى لنا حتى الفرصة للتقصي والاستفسار عن هذه الأمور. والأسوأ من ذلك أن مثل هذه الاستقصاءات والأسئلة قد تنتهي مع مرور الزمن، وتظل لغزًا إلى الأبد. سندع أجيال المستقبل يرثون التشابك الفوضوي للحياة والموت حيث لا أحد يمتلك ذكرى منها.
عندما تخفّ حدة التفشّي في النهاية، ينبغي ألاّ نكون مثل العمة شيانغ لين (شخصية خيالية في رواية لو شون، توصف بأنها فلاّحة متواضعة وحمقاء عالقة في الإقطاعية)، والتي تثرثر إلى ما لا نهاية: «أنا أعرف فقط أن الحيوانات البرية ستجوس في القرية خلال فصل الشتاء عندما لا يوجد هناك شيء لتأكله في الجبال. ليست لدي فكرة عما إذا ستفعل الشيء نفسه خلال فصل الربيع». كما لا يجب أن نكون مثل آكيو (شخصية خيالية في رواية لو شون متميزة بخداع الذات للاعتقاد بأنها ناجحة أو أكثر تفوقًا من الآخرين)، مرارًا وتكرارًا نصرّ على أننا منتصرون حتى بعد تعرضنا للضرب، والإهانة، وكوننا على حافة الموت.
في الزمن الماضي والحاضر من حياتنا، لماذا تقع التراجيديات والكوارث دائمًا على الفرد أو الأسرة أو المجتمع أو العصر أو البلد واحدة تلو الأخرى؟ ولماذا يُدفع ثمن كوارث التاريخ دائمًا بحياة عشرات الآلاف من الناس العاديين؟ بين العوامل التي لا تحصى ولا نعرفها، ولا نسأل، أو قيل لنا ألاّ نسأل عنها (والذي أصغينا إليه بكل طاعة)، ثمة ذلك العامل الوحيد: كوننا نحن البشر، جميعنا إجمالاً كجنس بشري، النكرات الشبيهة بالنمل، كائنات نسّاءة.
ذاكرتنا تم تنظيمها واستبدالها ومحوها. نتذكّر ما يطلب منا الآخرون أن نتذكّره، وننسى ما يُطلب منا أن ننساه. نظل صامتين عندما يُطلب منا ذلك، ونغنّي عند الطلب. الذاكرة أصبحت أداة من أدوات العصر، تُستخدم لصياغة الذكريات الجماعية والوطنية، وتصنَّع مما يُطلب منا نسيانه أو يُطلب منا تذكّره.
تخيلوا هذا: دعونا لا نتحدث عن أغلفة الكتب العتيقة المغبرة التي أصبحت شيئًا من الماضي؛ دعونا فقط نستحضر آخر الأحداث التي وقعت في العشرين سنة الماضية. الأحداث التي خبرها أناس مثلكم، الأطفال المولودون في الثمانينيات والتسعينيات، وتذكروا جميعًا (الكوارث الوطنية مثل الإيدز، والسارس، والفيروس التاجي) هل هي كوارث من صنع الإنسان، أم أنها كوارث طبيعية يقف الإنسان عاجزا أمامها، مثل زلازل «تانغشان» و»نتشوان»؟ إذن، لماذا تكون العوامل البشرية في النوع السابق من الكوارث الوطنية هي نفسها تقريبًا؟ خصوصًا وأنّ وباء السارس منذ 17 عامًا مضت، واستفحال وباء الفيروس التاجي الحالي يبدوان كما لو كانا من أعمال المخرج المسرحي ذاته. نفس التراجيديا أُعيد تمثيلها أمام أعيننا. كبشر ليسوا سوى غبار، نحن غير قادرين على معرفة من هو هذا المخرج، ولا نمتلك الخبرة لاستعادة وتجميع أفكار كاتب السيناريو، آرائه، وابتداعاته. ولكن، عندما نقف أمام إعادة تمثيل «مسرحية الموت» هذه مرة أخرى، ألا ينبغي أن نسأل أنفسنا على الأقل ماذا كانت ذكرياتنا عن آخر مرة كنا جزءًا منها؟
من الذي أزال ذاكرتنا ومحاها؟!
الأشخاص النسّاؤون، في جوهرهم، تراب في الحقول وعلى الطرقات. الأخاديد في باطن النعل يمكنها أن تطأ عليهم بأيّما طريقة تشاء.
الأشخاص النسّاؤون، في جوهرهم، كتل خشبية وألواح قطعت العلاقة مع الشجرة التي أعطتها الحياة. المناشير والفؤوس تتحكم بشكل كامل في ما ستصبح عليه في المستقبل.
بالنسبة لنا، نحن الأشخاص الذين يضيفون معنى للحياة بسبب حب الكتابة، والأشخاص الذين سيعيشون حياتهم كلها معتمدين على هذه الحروف الصينية؛ لطلاب الماجستير في جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنلوجيا الذين هم على الشبكة حاليًا، وبالطبع من ضمنهم المؤلفون الذين تخرجوا من أو لا يزالون يدرسون في صفوف الماجستير في جامعة رنمين الصينية للكتابة الإبداعية، إذا تخلينا كذلك عن ذكرياتنا عن إراقة الدماء والحياة، فما معنى الكتابة إذن؟ ما هي قيمة الأدب؟ لماذا يحتاج المجتمع إلى الكُتّاب؟ كيف تكون كتابتك المتواصلة، والمثابرة، والعديد من الكتب التي كتبتها مختلفة عن كونك دمية يتحكّم بها الآخرون؟ إذا لم يبلّغ المراسلون عما يشهدونه، ولا يكتب المؤلفون عن ذكرياتهم ومشاعرهم؛ إذا كان الناس في المجتمع الذين يستطيعون التحدث ويعرفون كيفية التحدث يسردون دائمًا، ويقرأون، ويصرّحون في لياقة ٍسياسيةٍ شاعريةٍ خالصة، فمن يستطيع أن يخبرنا ما معنى العيش على هذه الأرض كبشر من لحم ودم؟
تخيّلوا هذا: أن الكاتبة فانغ فانغ لم تكن موجودة في ووهان اليوم، ولم تحتفظ بتسجيلات أو مدوّنات ذكرياتها ومشاعرها الشخصية. ولا كان هناك عشرات الآلاف من الأشخاص الذين كانوا مثل فانغ فانغ ويطلقون صرخات عالية طلبًا للمساعدة عبر هواتفهم النقّالة. ماذا كنّا سمعنا؟ وماذا كنّا رأينا؟
في خضم السيول العظيمة لعصر ما، غالبًا ما تُعامل ذكريات المرء على أنها رغاوٍ فائضة، تيارات وضوضاء يمحوها العصر أو يرميها جانباً بلا مبالاة، يسكت أصواتها وكلماتها، كما لو أنها لم تكن موجودة أبداً. للأسف، مع مرور العصر، يتلاشى كل شيء في النسيان. اللحم والدم، والجسد والروح تمضي أدراج الرياح. كل شيء على ما يرام، ونقطة الارتكاز الصغيرة للحقيقة التي يمكن أن ترفع العالم قد فقدت. على هذا النحو، يصبح التاريخ مجموعة من الأساطير، أساطير من قصص مفقودة ومتخيَّلة، والتي لا جدوى لها ولا أساس. من هذا المنظور إذن، ما مدى أهمية أن نتذكّر، وأن نمتلك ذكرياتنا الخاصة التي لم يتم تنقيحها أو محوها. إنها أقل قدر من اليقين والبيّنة التي يمكننا تقديمها عندما نتحدث بقليل من الحقيقة. هذا مهم بشكل خاص للطلاب الذي يدرسون حصص الكتابة الإبداعية. معظمنا مقدَّر له أن يكرس حياته للكتابة، للبحث عن الحقيقة، والعيش كأشخاص من خلال ذكرياتنا. إذا حدث وأن جاء يوم يفقد فيه حتى أشخاص مثلنا ذلك القدر المثير للشفقة من الموثوقية والذكريات، فهل ستظل ثمة مصداقية شخصية وتاريخية وحقيقة في هذا العالم؟
في الواقع الفعلي، حتى وأن كانت قدرتنا على التذكر وذكرياتنا لا تستطيعان أن تفعلا شيئًا لتغيير العالم أو الواقع، فإنهما على الأقل يمكن أن تساعدانا في إدراك أن ثمة شيئًا مريبًا ما حينما نواجه «حقائق» مركزية ومنظَّمة. الصوت الصغير فينا سيقول: «هذا ليس صحيحًا!». على الأقل، قبل الوصول الحقيقي لنقطة التحوّل في تفشّي الوباء، سنظل قادرين على سماع وتذكّر حداد وبكاء الأفراد والعائلات والمهمشين، وسط أغاني النصر الاحتفائية التي تصمّ الآذان.
الذكريات لا يمكنها تغيير العالم، لكنها تعطينا قلبًا حقيقيًا.
في حين أن الذكريات قد لا تمنحنا القدرة على تغيير الواقع، إلاّ أنها على الأقل قد تثير سؤالاً في قلوبنا عندما نصادف كذبةً في طريقنا. إذا كانت هناك «قفزة عظيمة للأمام»* أخرى يومًا ما وعاد الناس إلى استخدام الأفران في الأفنية الخلفية، سيمكنها على الأقل إقناعنا بأن الرمل لن يتحول إلى حديد، وأن «مو» (وحدة قياس، تعادل 667 مترًا مربعًا تقريبًا) واحدة من المحصول لن تزن 100.000 «كاتيس» (مقياس صيني يعادل 500 غرام). سنعرف على الأقل أن هذه هو الحس الأساسي السليم، وليس بعض معجزات الوعي الذي ينتج المادة، أو الهواء الذي يخلق الطعام. إذا كانت هناك «ثورة ثقافية» أخرى من نوع ما، فسنكون على الأقل قادرين على ضمان أننا لن نسلم آبائنا إلى السجن أو المقصلة.
تلاميذي الأعزاء، نحن جميعًا من طلاب الأدب الذين على الأرجح سيقضون حياتهم في التعامل مع الواقع والذكريات من خلال اللغة. دعونا لا نتحدث عن الذكريات الجماعية، أو الذكريات الوطنية، أو ذكرياتنا الإِتنِيَّة، بل ذكرياتنا الشخصية. لأنه في التاريخ، تُحجب الذكريات الوطنية والجماعية وتُغيَّر ذكرياتنا على الدوام. اليوم، في هذه اللحظة الراهنة، فيما لا يزال الفيروس التاجي بعيدًا عن كونه ذكرى حتى الآن، يمكننا سلفًا سماع أغاني النصر وصيحات الانتصار الصاخبة تدوّي من كل مكان من حولنا. ولهذا السبب، آمل أن يصبح كل واحد منا، وجميع من خبروا كارثة الفيروس التاجي، أُناسًا يتذكّرون؛ أناسًا يستمدون الذكريات من الذاكرة.
في المستقبل المتوقَّع القريب، حينما تحتفي الأمة بانتصارها في معركتها الوطنية، التي هي معركة الفيروس التاجي، بالموسيقى والأغاني، آمل ألاّ نصبح كتّابًا جوفاً وفارغين يرجّعون الأصداء سوية، ولكن أُناسًا يعيشون بأصالة مع ذكرياتهم الخاصة. عندما يحين وقت الأداء العظيم، آمل ألاّ نكون أحد الممثلين أو الرواة على منصة المسرح، أو أحد هؤلاء الذين يصفّقون من أجل أن يكونوا جزءًا من الأداء. آمل أن نكون أولئك الأشخاص المعزولين والمُهمَلين الذين يقفون عند أبعد زاوية عن المنصة، ننظر بصمت وأعيننا مغرورقة بالدموع. إذا كانت موهبتنا، وشجاعتنا، وقوانا العقلية غير قادرة على تحويلنا إلى كتّاب مثل فانغ فانغ، فينبغي عندها ألاّ نكون من بين الأشخاص والأصوات التي تشكّك وتسخر من فانغ فانغ. في خضم العودة في نهاية المطاف إلى حالة من الهدوء والازدهار والتي ستحاط بموجات من الأغاني، إن لم نتمكن من التساؤل بصوت عالٍ عن مصدر انتشار الفيروس التاجي، فعندئذ علينا أن نُغَمْغِم ونُهَمْهِم بهدوء، لأن هذا أيضًا تعبير عن ضميرنا وشجاعتنا. 
إذا لم نستطع أن نكون من نافخي النفير «كاشفي الأسرار» مثل لي وينليانغ، فدعونا على الأقل نكون الشخص الذي يسمع ذلك النفير.
 
إذا لم نتمكن من التحدث بصوت عالٍ، فلنكن هامسين. إذا لم نستطع الهمس، فلنكن صامتين نمتلك الذكريات. بعد أن خبرنا البداية، الانقضاض، وانتشار الفيروس التاجي، دعونا نكون أولئك الأشخاص الذين يتنحّون جانبًا بصمت عندما تتحد الجموع لتغني نشيد النصر بعد كسب المعركة، الأشخاص الذين لديهم قبور في قلوبهم، بذكريات محفورة فيها؛ الأشخاص الذين يتذكرون ويمكنهم في يوم من الأيام نقل هذه الذكريات إلى أجيالنا المستقبلية.
 
LITERARY HUB
 
* القفزة العظيمة للأمام: حملة اقتصادية واجتماعية قام بها الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو، وانعكست في إصدار قرارات تخطيطية بين أعوام 1958 ــ 1961، تهدف إلى استخدام عدد السكان الضخم لتطوير الدولة بشكل سريع من الاقتصاد الزراعي إلى مجتمع شيوعي حديث من خلال عمليتي التصنيع والتنظيم الجماعي السريعتين. قاد ماو الحملة اعتمادًا على نظرية القوى المنتجة، وقام بتكثيفها بعد إبلاغه بكارثة وشيكة تتعلق بنقص الحبوب التي مثّلت إعاقة كبيرة لها. اشتملت التغييرات الرئيسية في حياة الصينيين في الريف على عملية تنظيم جماعي زراعي إلزامي وحظر الزراعة الخاصة. انتهت «القفزة العظيمة» بكارثة، إذ أدت إلى زيادة الوفيات بمقدار عشرات الملايين.