الرواية والتاريخ.. الوعي بالكتابة

منصة 2021/03/13
...

  عبد علي حسن
 
(هذا النص رواية وليس تاريخاً، لذا لزم التنويه..)  توترات القبطي/ رواية
يشكل التنويه السالف العتبة/ المناصة الثانية الداخلية بعد عتبة الإهداء لرواية (توترات القبطي) دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2009 للروائي السوداني أمير تاج السر.
ويشير التنويه إلى وعي الروائي أمير تاج السر بكتابة الرواية التاريخية كنوعٍ روائي ظهر الاهتمام به وعلى نحوٍ واسعٍ في البلدان العربيَّة التي شهدت سقوط الأنظمة الشموليَّة والدكتاتوريَّة منذ مفتتح الألفية الثالثة، والمباشرة في تشييد تجاربها الديمقراطيَّة، ما فتح الباب واسعاً للدخول الى التاريخ كوقائع اجتماعية شكلت مخيالاً جميعاً وأصبحت جزءاً من تاريخ المجتمع وممتلكاً لمنظومات قيمه، وقد وجد الروائيون العرب في هذه الوقائع التاريخية السالفة والمنظومات ما يكوّن مادة روائيةً ليس الهدف منها استرجاع الماضي، وإنما التذكير به ومساءلته لمعالجة مشكلات الحاضر، وإزاء هذا التوجه الجاد من قبل الروائيين لنفض الغبار عن التاريخ البعيد وتأويله بما يسمح لمقاربة المشكلات المعاصرة التي واجهت المجتمعات العربية بعد التحول في بنيتها الاجتماسياسية، فإنَّ الحوار والحديث والمناقشة لا تزال قائمة للوصول إلى فهمٍ صحيحٍ لمهمة الروائي حين يجعل من التاريخ والوقائع الاجتماعية والمرويات التاريخية والوثائقيَّة التي احتفظت باستقلاليَّة منظوماتها التكوينيَّة والقيميَّة، مادة لروايته، وأي من ذلك التاريخ والوقائع يصلح ليكون مادة روائيَّة تحقق هدفها المعرفي والجمالي، وعلى الرغم من كشف النقاد لمهمة الرواية التاريخية كنوعٍ أدبيٍ، فإنَّ الروائيين العرب قد أسهموا في هذا الحوار والنقاش حول ضوابط نجاح الرواية التاريخية بعدِّه فناً سردياً يُراد منه تحقيق الفعل الفني/ الجمالي فضلاً عن الرسالة المعرفيَّة التي يُراد توصيلها.
ولعل الروائي السوداني أمير تاج السّر قد أدرك مهمة الروائي التاريخي بالتنويه الآنف الذكر حين جعل مهمته تتجاوز مهمة المؤرخ في تقديم الأحداث التاريخيَّة، إذ إنَّه في النهاية يدرك أنَّ ما عليه تقديمه هو ليس وثائق ومرويات تاريخية وأنَّ ما عليه تقديمه هو (رواية) كفنٍ سردي متخيلٍ يأخذ بنظر الاعتبار آخر ما توصلت إليه الجهود الروائيَّة في معالجة الأحداث وفق تقنيات وآليات جديدة تثري مرجعية المتلقي الجماليَّة، كما أنَّ هذا التنويه يعدُّ إشارة إلى عدم التزام الروائي بحرفيَّة الوقائع والشخصيات المستلّة من الماضي، وخضوعها إلى الحذف والإضافة بما يضمن تقديم رؤية جديدة لتلك الوقائع مع الحفاظ على جوهرها المستقرّ في المخيال الجمعي، وفي ذلك تجاوز لمهمة المؤرخ الملتزم برواية ونقل الوقائع والأحداث والشخصيات بحرفية عالية قد تخضع الموجهات تواجه إشكالية التصديق والتحريف في أحيان كثيرة، وتجنباً لمنطقة اثارة الشكّ في مصداقية الوقائع، فإنَّ الروائي يلجأ إلى الحفاظ على جوهر الوقائع التي تحظى باتفاق أكبر عددٍ من المرويات والوثائق، ويكون له الحق بالإضافة والحذف بما يدعم وجهة نظره وموقفه وفق تأويل تلك الوقائع والشخصيات.
وما كان لذلك أن يتحقق بأيام إلاّ عبر بوابة التخييل التي تمنح الرواية هويتها الإجناسيَّة، كما فعل الروائي أمير تاج السر الذي وجد في حوادث مواجهة الغزو الأجنبي لمدينة (السور) السودانيَّة التي كانت أول الأهداف الكبيرة لثورة دينيَّة هبّت لطرد المستعمر وتطهير البلاد من الكفر والشرّ، ووفق متخيل روائي أوجد شخصيَّة (ميخائيل القبطي) الذي تحول اسمه إلى (سعد المبروك) بعد اعتناقه الدين الإسلامي الذي وجد في ممارسات الثورة الدينيَّة التي وجد نفسه فيها ما يتناقض والمعتقد، عبر استحواذ قائد الكتيبة على (خميلة) خطيبة المبروك واغتصابها، ولعلَّ في تأويل الروائي أمير تاج السر لحوادث الثورة وانتقاد ممارسات القائمين بها من القادة خاصة، إنما هو محاولة لتصحيح الأخطاء من خلال هذا النقد الموجه للثورة.
لقد كتب الروائي تاج السر رواية (توتّرات القبطي) بوعي لممكنات الرواية وتقنياتها الإجناسيَّة التي سمحت له لكتابة رواية تاريخيَّة ناجحة تجاوزت فيها مهمة الروائي من التوثيق والأرخنة إلى الرواية الفنية التي تؤدي وظيفة البديل المعرفي الذي يعمل وعي المتلقي حسب (كونديرا)، وباعتماد الحوادث التاريخيَّة كمادة للرواية، فإنها - الرواية - لم تكن مرويات تاريخيَّة بل رواية كفنٍ سردي يمتلك الحدود الإجناسيَّة التي يفترق فيها عن الأجناس الأخرى.