الزيارة البابويَّة..هل ستوقف تدفق المسيحيين إلى خارج العراق

بانوراما 2021/03/18
...

باتريك كوكبيرن*
 
ترجمة: ليندا أدور
التقيت الأب جلال ياقو، قس سرياني كاثوليكي، بعد فترة قصيرة من إرغامه على الفرار للنجاة بحياته، الى جانب 50 ألف مسيحي عراقي، هرباً من مسلحي عصابات داعش الإرهابية الذين بسطوا سيطرتهم على مدينة الموصل وجزء كبير من شمالي العراق في العام 2014. بدا الأب ياقو، حين كنا نتحدث ونحن نقف أمام مركز تجاري غير مكتمل البناء في أربيل، عاصمة اقليم كردستان العراق، وكأنه رجل يملؤه اليأس لسبب معقول. 
يؤوي الهيكل الخرساني للمبنى 1650 لاجئا مسيحيا بداخله ممن يحاولون البقاء على قيد الحياة وسط ظلمة شبه تامة نتيجة لانقطاع الكهرباء، فضلا عن عدم وجود مياه، كانوا جميعهم من طائفة السريان الكاثوليك ومن بلدة قرقوش الواقعة في سهل نينوى خارج الموصل، والذين حتى قبل أسابيع قليلة من هجوم داعش، كانوا يعيشون حياتهم الطبيعية في منازلهم ومتاجرهم وكنائسهم ومزارعهم وجراراتهم ومركباتهم, لكنهم في غضون ساعات، خسروا كل شيء بسبب هجمات داعش، وبالكاد نجوا بحياتهم، وقد تخلف عنهم نحو 150 فردا، ممن تأخروا في الفرار من البلدة بسبب أقارب لهم مرضى، أو ربما لسوء حظهم، لتمنحهم داعش الخيار بين الموت أو التحول الى الإسلام، لم تسلم حتى بيوتهم، فقد دعا مسلحو داعش من يتزوج من سكان الموصل للذهاب الى قرقوش واختيار ما يناسبه من الأثاث من منازل مهجورة كان يملكها سكانها المسيحيون.
 
صدمة مكتومة
أخبرني الأب ياقو، وهو من مواليد مدينة قرقوش، عن تجاربه المخيبة للآمال وكيف أنه اعتقد بأن على مسيحيي العراق التجاوب مع هذه الصدمة، اذ لا بد أنه هو نفسه كان يعيش حالة صدمة مكتومة، لكن ما قاله لي حينها، كان وثيق الصلة للغاية بمستقبل المسيحية في العراق اليوم.
خلال الفترة التي زار فيها بابا الفاتيكان العراق، زار مدن بغداد والنجف والناصرية والموصل وقرقوش، التي عاد بعض سكانها، ممن لا يزالون على قيد الحياة، وقاموا بطلاء جدران الكنيسة الرئيسة فيها، بعد احتراقها بفعل نيران فترة سيطرة داعش، باللون الأبيض، آملين أن يتمكن قداسته من فعل شيء لمنع زوال المجتمع المسيحي في العراق بعد 2000 عام، كان الأب ياقو من أشد المناصرين لبقاء المسيحيين في العراق، بقوله: «عشت في ايطاليا لمدة 18 عاما، وعندما عدت الى هنا كانت رسالتي هي حض المسيحيين على البقاء هنا»، مضيفا: «عندما زار البابا لبنان قبل عامين، عمل على تأسيس بعثة مهمتها بقاء مسيحيي الشرق الأوسط هنا في بلدانهم»، خلال فترة حكم صدام، تناقصت أعداد المسيحيين في العراق كنتيجة لحركة الهجرة التي تسببت بها الحروب الكارثية والعقوبات الاقتصادية القاسية. وبعد اجتياح العراق في العام 2003 بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، تراجع عدد مسيحييه بشكل كبير من مليون تقريبا الى نحو 250 ألف شخص فقط، حاول الأب ياقو جاهدا، وبتوجيه من روما، أن يوقف هذا الدفق من خلال اقناع سكان مدينة قرقوش بأن لهم مستقبلا في العراق، وان عليهم ألا يطلبوا اللجوء في الولايات المتحدة أو فرنسا أو استراليا أو أي مكان آخر يقبل بهم، لم تكن بالمهمة السهلة، لأن المسيحيين- وقبيل بروز داعش بوقت طويل- كانوا هدفا، وبشكل غير متناسب، للقتل والخطف والجريمة، لكن احكام عصابة داعش لسيطرتها على الموصل وقرقوش، أجبر الأب ياقو على تغيير رأيه حول جدوى بقاء المسيحيين في العراق: «لقد تغير كل شيء منذ مجيء داعش»، مضيفا: «كان علينا الفرار، فلم يعد لنا شيء هنا»، يقول وهو يصف كيف استولى عناصر داعش على قرقوش في السابع من شهر آب، وأجبروا سكانها البالغ عددهم 46 ألف نسمة على الفرار الجماعي ولم يتركوا لهم فرصة أخذ أي شيء معهم.
 
فشل وخذلان
بعض اللاجئين عانوا مما هو أسوأ من مجرد خسارة ممتلكاتهم المادية، ففي الطابق الثالث من مركز التسوق، وفي نهاية ممر مظلم تصطف على جانبيه حجرات جاهزة مقدمة من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تحدثت مع عايدة حنا نوح (43 عاما)، وزوجها الضرير خضر عزو عبادة، فقد كان مريضا لدرجة لم تمكنه من مغادرة قرقوش مع زوجته وأطفاله الثلاثة خلال الساعات الأخيرة التي سبقت استيلاء العصابات على البلدة، بقيت الاسرة في منزلها لأيام، بعدها، تم إبلاغهم من قبل داعش بالتجمع ليتم نقلهم بحافلات صغيرة الى أربيل، ومع صعودهم الى الحافلات، جردتهم عناصر داعش مما تبقى لهم من أموال وحلي ومستمسكات، كانت عايدة تحمل ابنتها كريستينا، البالغة من العمر ثلاث سنوات ونصفا، عندما وقعت عينا أحد المسلحين وكان ضخم الجثة، على الطفلة، جذبها بشدة بعيدا عن والدتها، التي ركضت خلفه متوسلة بإعادتها اليها، لكنه أمرها بالعودة الى السيارة وإلا ستقتل، ومنذ ذلك الحين لم تر ابنتها ثانية.
لم يكن العنف الوحشي الذي مارسته عصابات داعش الإرهابية، هو ما دفع الأب ياقو، مرغما، على الاستنتاج أن رسالته، التي كانت بموافقة البابوية، كانت خطأ، مشيرا الى فشل الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان في الدفاع عن المسيحيين، فعندما هاجم مسلحو داعش الموصل في حزيران من العام 2014، فر الكثير من أفراد الجيش بالرغم من تفوقهم العددي، وعندما تعرضت بلدة قرقوش لهجوم داعش بعد شهرين، انسحبت عناصر قوات البيشمركة بالشاكلة نفسها، على عجل ومن دون قتال، على الرغم من التطمينات التي تلقاها سكان البلدة بأنهم سيدافعون عنهم حتى النهاية، بمرارة يقول الأب ياقو: «قالوا بأنهم سيقاتلون من أجل قرقوش بشراسة كما سيفعلون من أجل أربيل».
مضيفا «لكن مع تعرضها للهجوم، لم نجد أحدا ليساعدنا»، بالرغم من أن قوة داعش التي هاجمت قرقوش كانت صغيرة، وفقا لشهود عيان، اذ لم تتعد عشر سيارات محملة بمسلحي عصابة داعش، لكن سرعة تراجع أفراد البيشمركة كانت كبيرة لدرجة ان بعض السكان لم يتسن لهم احضار جوازات سفرهم معهم، وغيرها من الوثائق الأساسية.
نواة مسيحيي العراق
هل بلغت حياة المسيحيين في العراق درجة من الخطورة من أن تبقى وتستمر؟ فقبل بروز عصابات داعش، سبق وأن تم استهدافهم على نحو متكرر من قبل تنظيم القاعدة في العراق، وكانت أبشع جرائمه وأفظعها هو ماحدث في العام 2010،  عندما استولى مسلحون وانتحاريون على كنيسة «سيدة النجاة» وسط بغداد، وأسروا الموجودين فيها وقاموا بذبح قسيسين وقتل أكثر من 50 شخصاً آخرين.
بعد عامين من حديثي مع الأب ياقو، قمت بزيارة مدينة قرقوش في العام 2016، بعد انسحاب مسلحي «داعش» الى الموصل، الأمر الذي تسبب بتدمير أجزاء واسعة منها وتحولت الى خراب، في سهل نينوى حيث تقع قرقوش، هناك فسيفساء من الطوائف، فعلى جانبي الطريق، كانت هناك قرى محترقة وهو ما يدل على أنه ليس المسيحيون وحدهم هم من تعرضوا للتهجير من منازلهم. وعند وصولي اليها، ذهبت الى كنيسة الطاهرة، النصف محترقة، حيث كان العشرات يقيمون قداسا باللغة الآرامية وسط الدمار الذي خلفه مسلحو داعش. 
لقد نجت قرقوش فعليا، لكن بشق الأنفس، اذ أقدمت عصابات داعش على إضرام النار في العديد من منازلها قبل مغادرتها، وقبل ذلك بوقت طويل، كانت قد نهبت الأثاث والمواقد وأجهزتها المنزلية المختلفة.
يمكن إصلاح الكثير من المنازل وجعلها صالحة للسكن ثانية، لكنها تفتقد حاليا الى الماء والكهرباء، وبالنسبة لداعش فيبدو أنها لم تقاتل من أجل البقاء في قرقوش، ولذلك على الأقل، لم تكن منطقتها مفخخة بالألغام ولا عبوات ناسفة مزروعة فيها، على العكس من أحوال  بلدات أخرى تمت استعادتها من قبل القوات العراقية. كانت الدلالة الوحيدة على مقاومة مسلحي داعش فيها عند مواجهة القوات العراقية المحررة هي أكوام الإطارات المحروقة بهدف خلق غبار دخاني كثيف من أجل إعاقة عمليات القصف الجوي من قبل الطائرات الأميركية، لذا كانت الضربات الجوية على المدينة قليلة، وحيثما حدثت، تجد المكان وقد تحول الى أكوام من الحطام والأنقاض.
عندما زرت قوقوش في العام 2016، كان 40 بالمئة من سكانها السابقين، قد غادروها وغادروا العراق، وقيل أن آخرين بانتظار بيع منازلهم قبل أن يهاجروا خارج البلاد، لكن معنويات جمعية «نواة مسيحيي العراق»، تعززت بزيارة البابا، وقرروا أنهم سيبقون في الموصل وقرقوش وبغداد، لكي ينهضوا برعاية كنائسها وأديرتها القديمة، ويبدو أن زيارة البابا ستمنح العراق دفعة الى الأمام ليعود الى المشهد الدولي من جديد.
*كاتب وصحفي ايرلندي وخبير في شؤون الشرق الأوسط