{غايب.. الحاضر الغائب}.. خلود الإنسان

منصة 2021/03/22
...

قحطان جاسم جواد
من الأفلام التي وثقت وأرخت لحياة وأدب الروائي الكبير غائب طعمة فرمان هو فيلم المخرج قاسم عبد الذي استطاع أنْ يروي حياة المنفى والمرارة لهذا العلم الشاهق في الأدب العراقي. وحتى بعد رحيله ظل مهملا وبعيداً عن الذاكرة من لدن المسؤولين.
بين صورة بغداد وقلبها النابض في جداريَّة ساحة التحرير وهدير الريح التي تُميل سيقان القصب الذي كان يستعيد المخرج "قاسم عبد" في هذه المقابلة القصيرة حكاية المدينة عبر أحد أبرز كتابها، ليكون فيلمه القصير (غايب.. الحاضر الغائب) صورة مكثفة عن تاريخ غاب أو غيب عمداً أسوة بشخوصه 
وأبطاله. 
على خلفية الحوار تنتقل المادة البصريَّة بمونتاجها اللماح بين سماء بغداد، بيوتها وأزقتها، أنهارها وجسورها وأيضاً حياة المنفى، وكلها حاضرة في مخيلة غائب بوصفه أحد أهم الشخصيات الأدبيَّة في تاريخ العراق.
من بين ما قاله فرمان بالفيلم: "إنه لا يستطيع أنْ يلخص حياته بكلمات لأنَّ الحياة لا يمكن تلخيصها أو أنْ يرويها كما عاشها، وأكبر الكتاب في العالم لم يتمكنوا من رواية حياتهم كما عاشوها. لا أفكر بالموت لأني أعتقد أنَّ عمل الإنسان سيخلده ويبقيه في ذاكرة الناس".
صورة وثائقيَّة بالأبيض والأسود تعود للعام 1980 في موسكو مدافة بالحنين الى ماضي بلدٍ لم يتبق منه اليوم سوى أطلاله وذكريات أناسه المؤبدة هناك عند انعطافات النهر وفي عتمة الأزقة الضيقة. وثيقة قاسم عبد النادرة هذه تعيد التأكيد ضمناً على أنَّ الروائي "غائب طعمة فرمان" لم يكن في يوم ما اسماً عابراً في الثقافة العراقيَّة. فهو وكما يرد على لسانه في هذه المقابلة التي يعرضها الفيلم يحب أنْ يوصف بالكاتب الملتزم، ذلك التعبير الذي لم يعد مسموعاً اليوم، إذ غابت المواقف التي صنعت مآثر ذلك النوع من الأدب الذي تأسست شهرته على انحيازه المعلن لقضايا الناس في محنتهم وأحلامهم.
مستعيناً بعدسة كاميرا مستعملة نوع 16 ملم يقدم المخرج قاسم عبد بمعية صديقيه سلام مسافر وفؤاد الطائي بورتريه سينمائي جميل ومقتصد عن شخص الكاتب فرمان (1927 - 1990) الذي أفنى حياته في الغربة وذلك عبر المرور على بعض محطات مسيرته وآرائه الأدبيَّة، مستعيناً بالوثيقة والصورة والغناء ولقطات عابرة من أعمال فرمان (نحو ست روايات) التي حولت الى مسرحيات وأفلام شهيرة، كالنخلة والجيران وخمسة
أصوات.
الحياة كما يراها فرمان هي الشيء الذي لا يمكن أْن يلخص أو يروى، وإنسان هذه الحياة هو بشكلٍ من الأشكال مجبرٌ على السير حتى نهاية الدرب من دون توقف. لكنَّ فرمان الذي يدين بالفضل لعمله في الصحافة لسنوات طويلة يعترف أنَّ التوقفات الاضطراريَّة في مسيرته الأدبية بين الكتابة والترجمة (نقل للعربيَّة أكثر من 80 كتاباً عن الروسيَّة) منحته فرصة تأمل حياته ومنجزه الروائي، كما خلقت لديه الرغبة في كتابة عمل روائي يتفوق به على نفسه ويتخطى في الغضون بقية 
أعماله. فالرجل الذي من عاداته الكتابة بعد الإفاقة منتصف الليل مسكون بعدم الرضا عن أعماله، في سياق طموح ومشروع لكاتب مهموم بقضايا وطنه ويتطلع لإنجاز ما هو أفضل وأشد تأثيراً، إلا أنَّ رحلة الذهن التي يقتبس غائب إشاراتها من إحدى سونيتات شكسبير قد توقفت فجأة من دون أنْ يحقق الكاتب كل ما 
حلم به.
يقول المخرج قاسم عبد عن فرمان وفيلمه: "غايب عاش ثلثي عمره في الغربة وأسقطت عنه الجنسيَّة العراقيَّة وعاش حياة التشرد والنفي، كان مسكوناً بمدينة بغداد وأزقتها الشعبيَّة أي حياة المحلة البغداديَّة وشخصياتها العراقيَّة المتنوعة في صراعها مع الحياة ومع نفسها والذين هم على الأغلب كانوا من الفقراء والمعدمين".
غايب الذي أحب بغداد وتعلق بها كتب عنها ست روايات بأسلوبه القصصيّ الشيّق (النخلة والجيران)، و(خمسة أصوات)، و(المخاض)، و(القربان) و(آلام السيد معروف)، و(المركب)، وكل رواية من هذه الروايات الست تؤرخ لوقائع مرحلة تاريخيَّة وسياسيَّة معينة من تاريخ بغداد الحديث.
واجه غايب إشكاليَّة المنفي واستحالة العودة في ظل الدكتاتوريَّة ومرارة التحولات النفسيَّة لسنوات البعد بالكتابة والإبداع الذي كان سلاحه الرئيس ضد الضياع والفقدان وفي رواية "المرتجى والمؤجل" وصف الحياة بالغربة على أنها انتظار لشيء من دون أنْ نعرفه على وجه التحديد.
لك المجد يا غايب وأنت ترقد اليوم في إحدى مقابر موسكو بعيداً عن المدينة التي أحببتها بغداد.