الخياطة.. مهنة الصبر تُحارب بالمستورد

ريبورتاج 2021/03/24
...

   عواطف مدلول    تصوير : نهاد العزاوي
 
الخياطة من المهن القديمة التي جذبت كثيراً من الناس للعمل بها، لكونها تتميز بالدقة والابداع، اذ لا يمكن أن يجيدها الا صاحب الذوق الذي يتمتع بمهارة عالية وموهبة فنية فريدة وقوة صبر، وقد انتعشت خلال الفترات التي سبقت عام 2003، اذ  شهدت اتساعا هائلا وزيادة فائقة بعدد المعامل المنتشرة بشكل ملحوظ  للاقبال الكبير والطلب على انتاجها، قبل دخول الملابس المستوردة التي اغرقت الاسواق المحلية بعد سقوط النظام المباد، فحصل التحول الذي نال من مكانة تلك المهنة ومن وقتها بدأت نحو التراجع والسير في اتجاه الاندثار. 
وبالرغم من أن تلك المهنة تحمل الملامح والصفات الانثوية من الجمال والفن والصبر، لكن اخذ يميل لها الرجل، ومع ذلك فان هناك حقيقة تؤكد بأن اول من عمل بها هو النبي ادريس عليه السلام.
 
مواقف قاسية
المعروف في الماضي انه لا يخلو بيت عراقي من ماكنة الخياطة، اذ كانت تسمى (الحبيّبة) التي لا يمكن الاستغناء عن وجودها فيه، وقد كانت اغلب النساء يقمن بخياطة ملابس اولادهن.  
الحاجة ام رياض قالت: "ليس لدينا وقت كالسابق بسبب انشغالات الحياة المختلفة، كما ان الموديلات تغيرت وكثرت، لذا نقصد الخيّاطة في حال كانت هناك فصالات تعجبنا او اشترينا ملابس جاهزة قد تحتاج تحويرا وبعض التغييرات، او لربما عدم توفر القياسات التي نريدها خاصة الصغيرة وكذلك الكبيرة ذات الاحجام الخاصة".
حنين عاشور التي عشقت الخياطة منذ عشرين عاما، اوضحت "بدأت بها كهواية ولم اجلس مع خياط او خياطة لأتعلم منهما، وقد تعرضت للضرب في طفولتي بسببها وعشت مواقف قاسية عديدة جراء حبي لها وادماني عليها، خلال تلك المرحلة العمرية عندما كنت اخيط للدمى واللعب التي امتلكها فساتين بالابرة والخيط، وفي احدى المرات احد اخوتي كسر وحرق لعبي مع الاقمشة ورمى بها في تنور والدتي، لانه غضب من انشغالي الدائم بها وبكيت وقتها بكاء حارا، لكن اخي الاصغر عوضني حينما شاهد حزني عليها واشترى لي لعبا واقمشة جديدة، كما ان معلمتي كانت تقول لي دوما (في احد الايام سيكون لك مستقبل زاهر بهذا الاختصاص) لما اتمتع به من ذكاء وقتها، ومن يومها توهج في عقلي حلم أن اصبح مصممة ازياء عالمية، لاني اجد في نفسي انسانة مبدعة، لكن بمرور السنوات انطفأ ذلك الطموح بداخلي لعدم وجود المادة، كما ان الظروف الصعبة وقفت بطريقي ولم استطع حتى اكمال دراستي"،  وتذكر حنين في مرحلة السادس الابتدائي عندما كانت تخيط لصديقاتها (الصدرية) بـ250 دينارا واحيانا بـ100 دينار، قائلة: "كانت تفرحني كثيرا هذه المبالغ الزهيدة". 
 
قصص أسريَّة
واشارت عاشور الى "انه قبل 2003 كان العمل يختلف كليا، لان المعامل تنتج بكثرة، وكنت اتسابق مع زميلاتي في انجاز اكبر عدد من القطع، من اجل الحصول على اعلى الاجور، الا انه بعد أن دخل الاستيراد اغلقت المعامل واندثرت المهنة، ولكني تمسكت بها ولم استطع تركها، لاني لا اجيد غيرها، فهي كانت حياتي ومصدر رزقي دوما".
 
بين الرجالي والنسائي
اما سعد حمزة القريشي (ابو فريد) فبدأ العمل بالخياطة من عمر سبع سنوات وقد اكمل دراسته وحصل على دبلوم فني بمعهد النفط اثناء ممارسة تلك المهنة، لكنه لم يسع للتعيين بعد التخرج، لانه لم يكن يحتاج الوظيفة بوقتها، اذ كان يمتلك سيارة وهو طالب بالمعهد حسب وصفه، مضيفاً "تعلمت الخياطة من اخي الاكبر الذي ادخلني معترك العمل عندما كنت بمرحلة الاول الابتدائي".
وعن سبب تحوله من الخياطة الرجالية الى النسائية علل موضحاً "تواصلت بالرجالي لغاية عام 1984 بعدها تخصصت كليا بالنسائي، والفرق بينهما، ان كل القطع في الرجالي تكاد أن تكون متشابهة، اما النسائي فكل قطعة فيها موديل يختلف عن الاخرى، كما ان الاقمشة النسائية متعبة وصعبة بالعمل، لكني فضلتها لانني اشعر بمتعة اكثر اثناء العمل بتفاصيلها، فضلا عن ان فيها ميزة، وهي انه ليست هناك مجاملات من ناحية المادة، فالمرأة عندما يكتمل شغلها تسدد الحساب الذي عليها وبذلك لا تسبب لي اي احراج، اما في العمل الرجالي على العكس تماماً، فكنت اعاني من الديون واخجل من الجيران والاقارب والمعارف وكذلك بعض الناس في السلطة، لان المحسوبيات كثيرة، لكن تخلصت من هذه الحالة عندما استقريت نهائيا بالنسائي". 
 
اناقة المرأة
ويبين القريشي "عايشت الرجل والمرأة ولاحظت ان الرجل قبل عام2003، كان يهتم جدا بمظهره، الا انه بعد ان باتت المعيشة صعبة وتتطلب منه دفع اموال ومصاريف اكثر لبيته انصرف قليلا عن التركيز على هذا الموضوع كالسابق، لكن المرأة مستمرة بالمستوى نفسه من الاهتمام بالمظهر بل واكثر، بتأثير الانترنت والسفر والتلفزيون، اذ اننا في الماضي كنا نشتغل على (البرد) مجلات التفصيل والخياطة، اما الان فاصبحت الزبونة تبعث اربع او خمس صور بالموبايل مأخوذة من الانترنت وهي في البيت، والمرأة اهم شيء لديها المواعيد وانا ملتزم جداً بها".وعن تأثير ارتفاع الدولار اوضح بانه "لم يكن كبيرا، لكن جائحة كورونا تسببت باضرار في العمل، اذ كلنا مرتبطون ببعض وحالة جلوس الناس بالبيت انعكست علينا، سواء الموظف او بائع لوازم الخياطة، فجميعنا نشترك بالوضع ذاته، اذ تعطل شغلنا اشهراً".  
مشيرا الى انه "ليست هناك صعوبة في العمل لكن كل مهنة تتطلب دبلوماسية وتحتاج الى طاقة تحمل وصبر ومرونة كبيرة بالتعامل، وينتقد كل خياط يتعصب ويصاب بالملل ولا ينصحه باتباع ذلك السلوك"، ويختتم: "احد اولادي تعلم هذه المهنة واحبها وصار ماهرا بها، لذا انا سعيد وفخور جدا به واسعى لتقديم المشورة والمساعدة له في فتح محله، لاسيما انه بالقرب من محلي".
 
المستورد الجاهز
بعد فشله بالدراسة وجد ضالته بمهنة الخياطة واثبت نجاحا وتميزا بها، انه علاء حسين الذي كان يشتغل بمعمل في شارع الرشيد وقال: "لجأت لتلك المهنة، لان لدي شغفا كبيرا بها، وانطلقت فيها عام 1985، وقد كان والدي مقاول بناء وهربت من مهنته وذهبت لصديقه الذي يدير معمل خياطة، وصرت اتابع كل تفاصيل العمل وبدأت اتعلم بسرعة كل صغيرة وكبيرة، لان مهنتنا فيها مراحل وليس بسهولة اتقانها حتى وصلت الى مرحلة متطورة فيها، بعدها تركت العمل لاني التحقت بالخدمة العسكرية لاربع سنوات اكملتها وعدت، اذ  كانت تحتل عقلي افكار الخياطة، وبدأت مشروعي الخاص وافتتحت محلا والحمد لله توفقت به". 
ويقارن علاء بين الخياطة للنساء وللرجال، اذ يستقبل كلاهما في محله قائلا: "التعامل مع الرجل متعب، خاصة اذا لم تكمل الملابس او تتأجل مواعيد انتهائها، فعادة ما تحصل مشكلات جراء ذلك، اما عمل القطع النسائية فاصعب ويتطلب تركيزا وجهدا واهتماما اكثر من ناحية الذوق والاقمشة والموديلات، ويرى ان دخول المستورد اثر في عمل الخياطين، رغم ان الخامة غير جيدة لكن الناس تغيرت، فليس لديها مجال او حتى رغبة بالانتظار لايام من اجل استلام ملابسها من الخياط لذلك تختصر الامور وتشتري الجاهز الرخيص".
 
الصيف والمناسبات
في حين قالت الخياطة الهام منصور سلام (ام ثامر) ،"امي رحمها الله كانت تشجعني وتردد على مسامعي دوما مقولة (تعلمي مهنة تفيدك بالمستقبل خشية من عدم حصولك على وظيفة حكومية)، ولانها تمتلك المبادئ الاساسية فيها  فقد علمتني المهنة على ماكنة البيت التي تشكل حاجة ضرورية بوقتها لا غنى عنها في كل منزل عراقي حالها حال الطباخ والمجمدة وبقية الاغراض المهمة، وعندما كبرت صرت اخيط لنفسي ملابسي، وبعدما تخرجت في معهد الادارة قسم المحاسبة لم ارغب بالتعيين لاني لا احب الالتزام بدوائر الدولة، واشتغلت وكيلة اخراج بضائع جمركية وبعد ان غادرت الشركات الاجنبية البلد في التسعينيات، افتتحت محلا في البداية لكي اعتمد على نفسي ومن ثم عملت باحد المعامل حتى اكتسب خبرة وبعد فترة رجعت ثانية  للمحل الخاص بي".
وتابعت ام ثامر "كنت المرأة الوحيدة  بقيصرية تضم 14 خياطاً، اغلبهم رجال ثم ارتبطت بزوجي الذي كان عنده محل (مكواة)، وجلست بعد الزواج في البيت، لكني لم اتوقف عن الخياطة للجيران والصديقات والاقارب، وعندما ذهب والد ابنائي لدار حقه خرجت للعمل مجددا، لان الامور تغيرت ولم يعد شغل البيت يكفيني وحاولت أن اغرس في ولدي الاثنين (ثامر وحسن) حب المهنة واجذبهما نحوها، فتعلماها لكن لم المس لديهما رغبة حقيقية بامتهانها، لان واردها قليل، وهما مثل شباب اليوم وليسا صبورين مثلنا نحن الجيل القديم، فجيلهما دائما مستعجل يريد أن يعمل بمجال يعود عليه بمبالغ كبيرة، لكن قد يتساءل البعض عن سر بقائنا بتلك المهنة رغم ذلك، لان لدينا زبائن منذ زمن، فضلا عن حبنا لها، اذ نلاحظ أن الذي يختار العمل بها حاليا يتركها بعد فترة وجيزة، اذ لا يستطيع الثبات والصمود فيها".
واضافت ام ثامر "الاستيراد كسر عملنا، لكن الاخطاء التي تأتي فيه لصالحنا، اذ تلجأ الينا الزبونة لتصحيح تلك الاخطاء، وغالبا ما تكون البضاعة رديئة في الصيف وهو الموسم الذي يكثر به عملنا وكذلك بالمناسبات الاجتماعية والاعياد وشهر محرم الحرام". وتشكو من عدم القدرة على دفع تكاليف ايجار المحل في الآونة الاخيرة، وكذلك سعر المولدة الكهربائية الذي زاد بسبب بعد ارتفاع الدولار، اذ ان اهل المهن تضرروا جراء ذلك، وقبله انتشار وباء كورونا الذي تسبب في تراجع عملنا ايضا.