من الذي اخترع الأبجديَّة؟

بانوراما 2021/03/29
...

  ليديا ويلسون 
  ترجمة: مي اسماعيل
أشارت دراسة حديثة الى تناقض في المنظور التاريخي: إذ كيف ابتكر اناس لا يستطيعون القراءة نظامنا للكتابة؟ 
اجتذب مثلث سيناء الصحراوي الواقع بين أفريقيا وآسيا الباحثين منذ آلاف السنين، مدفوعين بالرغبة للحصول على رواسب المعادن الغنية الكامنة في الصخور، وفي احدى تلك الحملات، قبل نحو أربعة آلاف سنة، قام شخص مجهول (أو مجموعة أشخاص) بخطوة جريئة كانت ثورية بحق، إذ خربشوا على جدار أحد المناجم أولى محاولات شيء نستخدمه كل يوم: الأبجدية.
دلائل هذا الحدث ما زالت قيد الاختبار واعادة الترجمة (بعد 116 سنة من اكتشافها)، وقد حدث بمنطقة «سرابيط الخادم-Serabit el-Khadim» في مصر؛ وهي بقعة قصية حتى بمقاييس منطقة سيناء، مع ذلك لم يكن يصعب وصولها على المصريين القدماء؛ كما يشير وجود معبد هناك، مقام في الصخر للآلهة «حتحور- Hathor» آلهة الفيروز (من بين عدة رموز اخرى)، هناك أيضا مسلات، محفور عليها رموز هيروغليفية على جانبي المسار الى المعبد؛ تشير دلائلها الأثرية لوجود مجمّع معابد كبير هناك، وعلى بُعد نحو كيلومتر جنوب غرب المعبد يوجد سبب الاهتمام القديم بتلك المنطقة؛ عُقَد الفيروز الكامنة في الصخور، وهو حجر يرمز لتجدد الحياة وعنصر حيوي في الثقافة المصرية، يزين لونه جدران قبورهم الفخمة. الفيروز هو السبب الذي أرسلت من أجله النخبة المصرية بعثات من الدولة المركزية الى هذه المنطقة؛ مشاريع بدأت نحو 2800 سنة ق.م.، واستمرت نحو ألف سنة، قدمت تلك البعثات القرابين للآلهة حتحور؛ أملا في حصيلة غنية يعودون بها للمنزل. 
 
«حجر رشيد الابجدية»
استكشف زوجان من علماء المصريات، السير وليام وهيلدا فليندرز بيتري، ذلك المعبد لأول مرة سنة 1905، ووثقوا آلاف القرابين النذرية. اكتشف الزوجان أيضا رموزا محيرة على جوانب أحد المناجم، وبدؤوا بملاحظة وجودها في أماكن اخرى؛ على جدران وتماثيل صغيرة، بعض تلك الرموز تنتمي بوضوح الى الهيروغليفية، لكنها أكثر بساطة من اللغة المصرية التصويرية على جدران المعابد، تعرّف الزوجان على تلك الاشارات بأنها أبجدية؛ رغم أن فك شفرتها سيستغرق عقدا آخر، وتقصي مصدر ابتكارها وقتا أطول. جلب الزوجان العديد من مكتشفاتهما الى لندن؛ ومنها- تمثال صغير لأبي الهول من الحجر الرملي الاحمر، مكتوب عليه بضعة رموز مماثلة لتلك الموجودة في المناجم، واعدّاه حينها كأنه «حجر رشيد الابجدية». وبعد عقدٍ من دراسة الرموز نشر عالم المصريات السير «آلان جاردينر» ملاحظاته عنها وترجماتها؛ كالتالي.. الرموز على أبي الهول الصغير، مكتوبة بلهجة ساميّة: «محبوبة بعللات»، في إشارة إلى الإلهة الكنعانية- زوجة بعل، الإله الكنعاني القوي». 
تقول عالمة الآثار «أورلي جولدفاسر»: «كل كلمة نقرأها تبدأ وتنتهي بهذا الاله وأصدقائه»، شارحة نظرية عن كيف غيّر منقبو المناجم في سيناء الهيروغليفية الى حروف: «ضع اسما للصورة، ثم خذ الصوت الأول واحذف الصورة من ذهنك..». وهكذا أسهمت الكلمة الهيروغليفية للثور «أليف- aleph» بتشكيل الحرف «أ- a». ثم اشتق المبتكرون حرف «ب» من كلمة «منزل» الهيروغليفية «بيت-bêt.. وهكذا. وهذان الرمزان شكلا لاحقا اسم النظام ذاته: الأبجدية. 
جرى استعارة بعض الحروف من الهيروغليفية، واستُلت اخرى من الحياة؛ حتى بات بالإمكان تمثيل جميع أصوات اللغة التي تحدثوا بها بالشكل المكتوب. 
 
أبجدية دويلات المدن
قدم مجمّع المعابد دلائل تفصيلية عن العاملين في بعثات استخراج الفيروز بسيناء؛ إذ وثقت المسلات المقامة على جانبي الممرات كل بعثة، وبضمنها- اسماء ومهام كل شخص عمل بالموقع، كانت مصر حينها وجهة الراغبين بالعمل في المنطقة، وانتهى الامر بالعديد من الناس (ومنهم الكنعانيون) بالعمل لصالح النخبة المصرية في مناجم سرابيط؛ نحو 338 كم (برا) جنوب شرق ممفيس؛ عاصمة الفراعنة. 
لعبت الطقوس الدينية دورا مركزيا لإلهام العمال الاجانب لتعلّم الكتابة؛ فبعد نهاية يوم العمل، يكون الكنعانيون قد راقبوا طقوس زملائهم المصريين في المعبد المجاور، ودُهشوا لرموز الهيروغليفية المتعددة المخصصة لتقديم الهدايا للآلهة. وحسب تفسير جولدفاسر أن عزيمة العمال لم تُثبط لعدم استطاعتهم قراءة الرموز من حولهم؛ بل بدؤوا بكتابة الامور بطريقتهم؛ مبتكرين نظاما أكثر بساطة وطلاقة لتقديم تضرعاتهم. 
بقي نظام الابجدية ضمن المحيط الحضاري للبحر المتوسط لستة قرون أو أكثر بعد ابتكاره، وشوهد فقط في كلمات محفورة على شواهد وأشياء موجودة في أرجاء الشرق الاوسط ؛ كالخناجر والفخار، وليس في أي تسجيل اداري أو أدبي، ولكن وقعت اضطرابات سياسية كبيرة بحدود سنة 1200 ق.م.، تُعرف لدى المؤرخين بمصطلح: إنهيار العصر البرونزي المتأخر. تفككت الامبراطوريات الرئيسة في الشرق الادنى (الامبراطورية المقدونية في اليونان، والحيثية في تركيا، وامبراطورية مصر القديمة) وسط صراع أهلي داخلي، وغزوات وموجات جفاف. وبظهور دويلات المدن الصغيرة؛ بدأ القادة المحليون باستخدام اللغات المحلية لمتطلبات الحكم. وفي أرض كنعان؛ كانت تلك اللهجات السامية، مكتوبة بأبجدية مستقاة من مناجم سيناء. ازدهرت دويلات المدن الكنعانية، ونشرت التجارة البحرية النشيطة أبجديتهم مع منتوجاتهم، ووجدت آثار لتنويعات من تلك الابجدية المعروفة الآن بالفينيقية (نسبة للكلمة الاغريقية عن أرض كنعان) في مناطق تمتد من تركيا الى اسبانيا؛ وما زالت باقية الى اليوم بصيغة الحروف التي استخدمها ونقلها الاغريق والرومان.
 
تأييد وشكوك
منذ القرن الذي مضى على اكتشاف أول تلك الحروف المحفورة على جدران مناجم سيناء؛ كان الإجماع الأكاديمي السائد، أن أشخاصا ذا تعليم جيد هم الذين ابتكروها؛ لكن أبحاث جولدفاسر قلبت تلك الفكرة. فهي تقترح أن مجموعة من عمال التعدين الكنعانيين الأميين، هم الذين حققوا هذا الابتكار واقعيا؛ لأنهم لا يستطيعون قراءة الهيروغليفية ولا التحدث بالمصرية؛ لكن الكتابة التصويرية التي رأوها حولهم ألهمتهم، وبهذا المنظور فإن واحدة من أهم مبتكرات الحضارة الأكثر عمقا وثورية بالإبداع الفكري لم تنبع من نخبة متعلمة؛ بل من عمال أميين؛ من الذين يغفل التاريخ ذكرهم غالبا. يدعم «بيير تاليه» الرئيس السابق للجمعية الفرنسية لعلم المصريات نظرية جولدفاسر، قائلا: «انها بالطبع نظرية معقولة؛ إذ يبدو واضحا أن من كتب تلك الخربشات في سيناء لم يكن يعرف الهيروغليفية. والكلمات التي كتبوها بلغة سامية؛ لذا فمن الغالب أنهم كنعانيون؛ الذين نعرف أنهم كانوا هناك، بواسطة سجلات توثيق المصريين أنفسهم في المعبد». 
هناك أيضا بعض الشكوك.. إذ يرى «كريستوفر رولستون» الباحث بجامعة جورج واشنطن ان أولئك الكتبة الغامضين كانوا على الاغلب يعرفون الهيروغليفية، قائلا: «من غير المحتمل استطاعة عمال المناجم الاميين ابتكار الابجدية، ولا كونهم مسؤولين عنها». ولكن هذا الاعتراض يبدو أقل إقناعا من نظرية جولدفاسر؛ فلو كان الكتبة المصريون هم الذين ابتكروا الابجدية؛ فلماذا اختفت بسرعة من أدبياتهم لما يقرب من 600 عام؟ كذلك تشير جولدفاسر الى أن العلاقة بين اللغة الصورية وبين النصوص المكتوبة، تبدو اليوم أكثر وضوحا من حولنا؛ حتى في عصرنا المفرط التعليم؛ بصيغة «الايموجي- emoji» (= مصطلح ياباني الأصل يعني الصور الرمزية أو الوجوه الضاحكة، المستخدمة لكتابة الرسائل الإلكترونية وصفحات الويب. المترجمة). تستخدم جولدفاسر الايموجي بافراط في رسائلها بريدها الالكتروني والنصيّة، وترى أن تلك الرموز تحقق حاجة اجتماعية قد يتفهمها المصريون القدماء، قائلة: «لقد أدخلت الايموجي شيئا مهما الى المجتمع المعاصر؛ فقد شعرنا بفقدان الرسومات وشعرنا بالحنين اليها؛ وبوصول الايموجي استعدنا بعضا من ألعاب مصر القديمة الى حياتنا..». 
 
مجلة سمثسونيان