ميادة سفر
تتأرجح المجتمعات بين الماضي والحاضر والمستقبل، وما بين هذا وذاك تدور رحى الحياة ومنطقها وسيرورتها لتطحن كل هش لا مقاومة لديه، وتبقي على الأقسى والأقوى والأشد صلابة الذي تستند عليه في بناء المستقبل المستند إلى دعائم ثابتة، لكن ما يميز مجتمعاً أو جماعة عن أخرى، أنَّ البعض يتعلق بالماضي ويبني عليه، ويبقى يتغنى به وهو متجمدٌ في مكانه لا يحرك ساكناً، منتظراً من الآخرين تقديم كل ما يحتاج إليه للعبور نحو المستقبل، ومن هنا يبدأ تحكم الدول بعضها ببعض، وسيطرتها فكرياً وثقافياً ومن ثم اقتصادياً وسياسياً، حتى لتغدو بعض الدول كحجر الشطرنج تحركه أخرى وفقاً لمصالحها ومنفعتها الخاصة.
تعاقبت حضارات كثيرة على الأرض من بداية وجودها وحتى اليوم.. تغيرت بلاد واندثرت أخرى.. نهضت دول مكان دول، واستلهمت حضارات من سابقاتها، وهكذا إلى يومنا هذا وما أفرزه التطور من ثورة تكنولوجيَّة لا تلبث أنْ تتطور بين ساعة وأخرى.. ولا شك في أنَّ العرب وحضارتهم لم يكونا بمنأى عن التطور والتبدل ومن ثم الركود والانحطاط بفعل عوامل كثيرة، لكّنهم عوضاً عن النهوض مجدداً والبدء من جديد، ركنوا إلى آخر زمن كانوا فيه، ووقفوا على أطلال حضارتهم يبكونها، ويمنون على الغرب بأنّ كل ما وصل إليه إنما كان بفضل علمائهم ومفكريهم، دونما أية مبادرة للبناء من جديد.
ربما نسي أو تناسى البعض أنه في اللحظة التي أحرقت فيه كتب ابن رشد والرازي وغيرهم بتهمٍ شتى، كان الغرب يتلقفها ويجمعها ويبني ويؤسس عليها، ولم يكن يهمه إلى أية ديانة ينتمي هذا العالم أو ذاك، أو حتى إنْ كان مؤمناً أم ملحداً!.. نعم، تلقف الغرب العلوم والأفكار والمؤلفات التي قتل أصحابها بسببها، في الوقت الذي بقي العرب يجترون ماضيهم، مراوحين مكانهم، ومتسائلين بسذاجة: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن؟!.
يبدو أنّ العرب خرجوا من ركب الحضارات منذ زمنٍ بعيد، بعد أنْ أصبح همهم الأول والأخير معرفة إلى أية طائفة ينتمي فلان وفلان، وبعد أنْ سلموا رقابهم للآخرين يتحكمون بها كيفما يشاؤون!.. انقلبوا من فاعلين أساسيين في البشريَّة ومنجزاتها إلى منفعلين واقفين على الهامش بانتظار تلقي ما يقدم لهم من تقنيات وابتكارات جديدة!.. لكنهم وفي الوقت نفسه، ومن سخرية الأقدار، أنتجوا بعض العقول المتحجرة المنغلقة التي لا يتوانى أصحابها عن تفجير جسده في العشرات، أملاً بوعودٍ تتناسب وعقولهم المريضة وتفكيرهم السطحي!.
يقف البعض في هذا الجزء من العالم حراساً على الماضي.. يمنعون كل من يحاول الاقتراب منه ونقده والدعوة للخروج منه، فيما يبدو أنّ العقلية السائدة لدى هذا البعض هي عقلية القرون الوسطى، حيث القتل والغزوات والفتوحات والسبي والسلب والنهب، بدليل أنّ مجرد ظهور شخص مثل الإرهابي أسامة بن لادن أو البغدادي ينساق خلفه المئات بل الآلاف كالقطيع الذي تسوقه عصا الراعي.
ماضٍ مجيد نفخر ونتغنى به؟.. هذا جيد وحق مشروع، لكنه لا يكفي وحده لبناء المستقبل، إذ لا بُدَّ من السعي لدخول المستقبل مسلحين بالعلم والثقافة والفكر والفهم، لا بالأحزمة الناسفة والبنادق ومضادات الدروع والدبابات!.. لا بُدّ من الخروج من قمقم الماضويَّة، ودعم تلك الأصوات التي تدعو للتنوير والتفكير الحر والمنفتح، وهذا كفيلٌ ببناء عقولٍ نيرة منعتقة من الإحساس بأنها أسيرة الأمس، ومتطلعة نحو المستقبل، بدل تصدير وإفراز مزيدٍ من الجماعات والتنظيمات الإرهابيَّة، التي تقف حارسة لماضٍ أخذت منه من، وما، ناسب ويناسب أهواءها، وبقيت تقتات على فتاته العفن، وباسمه تجند الشباب للموت المجاني!..
المفارقة المضحكة المبكية أنَّ تلك الجماعات، وحينما تقتل وتشوه العقول، تستخدم الأسلحة والتقنيات التي أنتجها الغرب المتطور الذي تنعته، في الوقت عينه، بالكافر وترفض أفكاره وطريقته في الحياة!.