منارة {موجدة} إرثٌ تاريخيٌّ لم يزل يوقد ناره في الصحراء

ريبورتاج 2021/03/30
...

   علي لفتة سعيد 
بين مدينة كربلاء التي تقع على بعد 110كم جنوبي العاصمة العراقية بغداد، ومدينة عين التمر 85 كم غربي محافظة كربلاء، ثمة العشرات من المواقع الأثرية والتراثية، سواء تلك الموغلة بالقدم أو تلك التي كانت شاهداً على العصر الاسلامي، فالطريق الذي تقطعه السيارة والذي يطلق عليه طريق الحج البري أو الطريق الغربي الذي يربط كربلاء بمعبر عرعر او محافظة الانبار لا يخلو من حكاية تقول، ان ثمة حرباً هنا او موقعة هناك او مكاناً للتجارة أو حتى ذكرى أرض كانت مليئة بالأحداث اوحتى مكان للعبادة.

ورغم أن الطريق الى عين التمر تحيطه الصحراء من كل جانب، حتى كأن بحيرة الرزازة تشبه صحناً دائرياً ثلمت أطرافه حين جف الماء عنها، وكأنها مكان يغذي كل أثر في هذه المنطقة، هناك لن تترك عينك وانت تنظر الى يمينك بعد أن تقطع مسافة40كم، لتجد معلما واقفا مبنياً من الطابوق على شكل اسطواني من دون أن تطرح السؤال، فيأتيك الجواب انها منارة رغم التسميات العديدة فهي تارة موجدة او موقدة او حتى دمج الاسمين معاً.
 
الموقع والمكان والتاريخ
اكد المؤرخ والباحث الآثاري حسين ياسر الذي كان يشغل منصب مدير آثار المحافظة "ان المنارة تبعد عن كهوف الطار التي يصل عمرها الى أكثر من ثلاثة آلاف عام نحو 14 كم جنوبا، وتقع في هضبة عالية في منتصف الطريق تقريبا بين قصر عطشان الذي يبعد عنها حوالي 20 كم شرقا، وحصن الاخيضر الذي يبعد عنها بمسافة 20كم الى جهة الشمال الغربي".
واضاف "ان اسمها اشتق من ايقاد النار وجمعه مَوَاقِد والمستوْقِد هو موضع النار والموقِدَة، لكن عامة الناس حرفوا الكلمة فيما بعد فأصبحت تسمى بمنارة موجدة".
واشار الى أن "المنارة تقع على طريق الحج البري العراقي الذي يعرف بدرب زبيدة، وهو يربط الكوفة بالمملكة العربية السعودية، وكانت المنارة على طول مراحل طريق الحج تهدي الحجيج وسالكي الطريق الى مكة المكرمة، اذ يذكر المؤرخون في حوادث سنة (14هـ/ 633م) : "وفيها ضرب المنار من الكوفة إلى مكة"، ودرب زبيدة هو طريق كان يسلكه الحجاج القادمون من العراق الى مكة المكرمة، وسمي باسم زبيدة زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد، اذ عنيت به وانشأت على طول الطريق منازل زودتها بالمرافق اللازمة لخدمة المسافرين، وبلغ عدد هذه المنازل حوالي خمسين منزلا، و تاريخ البناء كما يرى الباحثون يعود الى ما قبل سنة (134 هـ/752م)"، ويمضي بقوله "ان بعض الباحثين يرون أن هناك ارتباطا تاريخيا بين حصن الاخيضر وقصر عطشان ومنارة موجدة، اذ يرجعون تاريخ تشييدها الى سنة (161هـ/780م )".
 
الأهمية والفائدة
لا شيء بلا هدف او فائدة في الآثار الباقية، فحصن الاخيضر مثلا واضح من تسميته، ولذا فان المنارة لها هدف حين تم تشييدها وفائدة كما يقول الآثاري ياسر، اذ انها تعد علامة دالة للمسافرين بين قصر عطشان وحصن الاخيضر، فضلا عن أنها كانت تؤدي وظيفة المراقبة والإنذار بأي خطر يهدد صاحب الحصن من خلال إيقاد النار فيها، وتعد هذه الوسيلة من الوسائل العسكرية السريعة آنذاك في نقل الأخبار، لذا يرى انها متعددة الوظائف، وسبب التسمية ما أضفته عليها الوظيفة. 
واشار الى أن هذه المنارة التي تقع في عمق الصحراء  كانت لها دلالات متباينة، وبذلك كثرت الروايات بشأنها، فقد أضفي عليها نسج من الخيال والخرافة، خاصة ما له علاقة بكيفية البناء، كما ان موقعها في ارض خالية من الابنية المحيطة والمجاورة اعطاها دلالات اخرى، ويلحظ ايضا كثرة الروايات الخاصة بتاريخ تشييد هذه المنارة، ولم يحسم ذلك لعدم وجود الدليل المادي لتحديد تاريخ النشأة والبناء.
وعن الهدف منها قال ياسر "ان الكثيرين يعتقدون ومن خلال الدراسات الآثارية ان هذا البرج (موجدة) هو برج للمراقبة العسكرية فقط، اذ لم يتم العثور على آثار تدل على وجود مستوطنة في هذه المنطقة الصحراوية سوى بعض الكسور من أوانٍ فخارية ملونة، كما ان مكان البرج يثير بعض الشكوك لوقوعه في منطقة صحراوية، بالإضافة لقربها من منطقة الطار، وتتوسط منطقة جنوب كربلاء والاخيضر".
 
تفاصيل البناء
اوضح مدير آثار المحافظة السابق "ان المنارة تقوم على قاعدة مربعة الشكل طول كل ضلع من اضلاعها سبعة أمتار وواجهتها مزينة بحنايا صماء متوجة بعقود مدببة وبارتفاع 3.5م، ويلحظ على هذه القاعدة التدرج البنائي المكون من أربع درجات، ارتفاع كل منها 85سم وعرضها 25سم، هذا التدرج أضفى على المنارة قوة ومتانة، ويبدأ الشكل الاسطواني بالارتفاع من اعلى القاعدة ليصل ارتفاع المنارة الحالي الى ثمانية أمتار". ويمضي بقوله: "يلاحظ ان القاعدة المربعة احتوت على ثلاثة تجاويف مستطيلة تعلوها عقود ويعلو هذه العقود افريز بارز من الآجر، هذا الافريز هو الجزء الفاصل بين القاعدة وبدن المنارة وما تبقى يوضح بعضا من العناصر الزخرفية ومنها التلاعب بوضعيات الآجر مكوناً قواما زخرفيا، كما توجد عناصر زخرفية هندسية وعنصر زخرفي يسمى بالقرون يقع في الجزء الاوسط من بدن المنارة".
وتحدث عن زخرفتها قائلا: "تختلف الزخرفة التي تزين كل قسم من اقسامها، فقد تم بناء بدن المنارة من الآجر المربع الشكل (الفرشي)، وزين بين كل قطعة آجر ونصف بقرون حيوانات، وان وضع القرون كان لأغراض زخرفية في الجزء الاوسط من بدن المنارة بحوالي مترين وعلى بعد ثلاثة أمتار ارتفاعا من قاعدة المنارة توجد منطقة زخرفية بعرض متر واحد تحوي ثلاثة اشرطة زخرفية من الآجر، يشمل الشريط الاول والثالث زخارف هندسية باشكال نجمة رباعية، اما الشريط الثاني (الوسطي) فيظهر فيه الافريز الزخرفي على شكل مثلثات، اذ عمد المعمار على التلاعب في وضعيات الآجر".
وبين "ان القسم الاعلى من المنارة يحتوي على تجاويف بشكل حنيات غير نافذة تبدو على هيئة نوافذ مستطيلة اقرب ما تكون إلى عنصر المزغل، وهذا ما نلاحظه في الجهة الغربية من المنارة هذا التجويف المستطيل الشكل (رأسي) يتسع من الداخل ويضيق من الخارج،  مثلما تحتوي المنارة على مزغل واحد يقع في الجهة الغربية، ولعل السبب في ذلك يعود الى ان المدخل يقع في الجهة الشرقية الذي اكتفي به عن وجود مزغل في هذه الجهة، وتنتهي بعقود اسطوانية مشابهة لما موجود في قاعدة المنارة".
 
السلم وحلزونية المعمار
واكد الآثاري ياسر "ان اصعب ما في الشكل الهندسي او البناء هو السلم الذي شيد بشكل حلزوني يبدأ الارتقاء اليه من أعلى القاعدة وهو يرتفع عن الأرض المجاورة بنحو مترين، ويرقى من خلاله الى قمة المنارة، ومن خلال فتحة المدخل يمكن الصعود الى باطن المنارة،  وبذلك فعلى الداخل الدوران الى الاعلى عكس اتجاه عقرب الساعة للوصول الى اعلى المنارة". 
واوضح "ان المعمار عمد على بنائه بصورة تصعب فيها على الصاعد الانسيابية بالحركة والسرعة زيادة في عملية التحصينات الدفاعية"، واضاف ايضا "ان مدخل المنارة يقع في الجهة الشرقية ويمتاز بالاستطالة ويتقدمه عقد نصف دائري، ومما يلاحظ أن باطنه ألحقت به عقود متتالية تمثل قبوا صغيرا، ومن خلال بعض التجاويف يلاحظ أن هناك فراغات بين واجهة العقد ولب المنارة، وفي القسم الذي يعلو المدخل إفريز متصل بارز من الآجر على شكل مثلثات مسننة تدور مع المنارة من جهاتها الثلاث عدا الجهة الشرقية، كون هذا الجزء يشغله عقد المدخل الرئيس و يعلوه صفان من الآجر، أما الصف الثالث فان وضعية الآجر قد اختلفت عما سبقتها بحيث أظهر المعمار أحد أركان الآجر ببروز يشبه قرن الحيوان تعلو هذا الافريز ثلاثة صفوف من الآجر، لتكون فاصلا بين القسم الذي يعلوه، وقد استخدم الآجر والجص في تشييد المنارة، وسقط الجزء العلوي منها ولا يزال القسم الاخر محافظا على شكله".
واكد " ان مما يلاحظ  على هذه المنارة انها لم تستطع المحافظة على شكلها الكامل، فمعظم اجزائها العليا انهارت بفعل عوامل التعرية الجوية".