الشعر والانفتاح على المغاير

ثقافة 2021/03/31
...

 حميد حسن جعفر
 
أولا/ يؤكد المهتمون بشؤون الرواية، والمتابعون لتطورها وعلاقاتها بالمفاصل الأخرى للثقافة، بعد أن تداخلت الأجناسُ، أن الروايةَ منتجٌ حضاري/ مدني/ صناعي، ظهرت للوجود بفعل توفر اكتشاف اجهزة انتاجها صناعيا/ الطباعة، وبفعل تشابك المصالح الاقتصادية ما بين العامل وصاحب الآلة، أي بشيء من مفصل فعل الصراع الطبقي وظهور المواجهة ما بين المبادئ والأخلاق من جهة والمصالح والربح المادي من جهة أخرى. 
فقبل عملية التصنيع (الطباعة والمطابع والنشر والتوزيع على المستوى التجاري) لا وجود للرواية بمعناها ومواصفاتها المتعارف عليها الآن، بل كانت هناك الحكاية الشفاهية المحصورة ضمن محمية الشريحة، أو قفص الفصيلة/ القبيلة، وإذا ما تصور البعض ان الرواية قد تشكل بعضاً او جزءاً من منتج قديم هو الأسطورة، الخرافة، الملحمة.. فهذا ما لا يمكن أن يحدث، قد يكون أي شكل كان مما سبق بعض منتج الاساطير او الخرافات قد استطاعت الذاكرة الإنسانية أن تحتفظ به، وذلك قبل ظهور الكتابة على ورق البردي أو على صفائح الطين/ الرقم.
الرواية منجزٌ لا يمت للمراحل التطورية التي سبقت ظهور البخار/ الآلة، والمصباح - مهما كانت قوة المنجز الثقافي آنذاك- التي سبقت المنجز المادي الصناعي، وتشابك العلاقات الإنتاجية المتمثلة بظهور مرحلة الصيد والرعي والزراعة والبداوة، وصولا للألفية الثالثة، أي أنها نتاج مرحلة العلم، وليس من نتاج المرحلتين السابقتين.
ثانيًا/ الشاعر ساحر صاحب رسالة أرضية، مكلف بإيصالها إلى روح الآلهة، وذلك قبل ظهور الاديان السماوية، حين كانت الاديان الوضعية/ الارضية هي السائدة، الرسول/ النبي صاحب رسالة سماوية مكلف بإيصالها الى الأرض حيث المخلوق/ الإنسان، ضمن هكذا معادلة يجد القارئ نفسه وقد تبادلت الادوار ليتحول النبي/ افتراضاً لشاعر، والشاعر لنبي.
ثالثاً/ الرواية نتاج حضاري/ حالة عقلانية، والشعر نتاج بدائي، وكلاهما يسعى لأن يكون اللبنة الاكثر إشراقا في حياة المجتمعات. الشعر حالة غيبية، حالة تبحث عن الما وراء في الميتافيزيقيا، في العلاقة بين العابد والمعبود، لأنه كان لغة/ وسيلة اتصال الكهنة ورجال المعابد بالآلهة، غير خاضعٍ للمقاييس، خالقا للسؤال، الرواية بنية/ كيان جغرافي/ اقتصادي ونتاج لعلاقات اجتماعية متشابكة قد تصل  حد التصادم لتوفير الحلول/ الإجابات، أما الشعر فهو بنية/ كيان روحي بلا حدود، نتاج لحالات توفر الحماية النفسية للكائن البشري الذي يعيش في وسطٍ فسيح ممتلئ بالبساطة لدرجة الفطرة التي لا تعرف كيفية الإجابة عن أسئلة لا وجود لها.
رابعا/ هكذا نشأ وترعرع كل من الرواية والشعر، الرواية وسط مجتمعٍ يغصُ بالمتناقضات، الشعر وسط مجتمع رأسماله الحنجرة والجسد، الرقص والغناء. الشعر تم اكتشافه من خلال اللغة/ الحنجرة، من خلال العاطفة/ الغناء/ الجسد. الرواية وجدت من خلال الصناعة/ الآلة -التقنية، الرواية عملية كشف للغواطس/ اجابات عن تساؤلاتٍ قد تصنع اطمئنانا، الشعر غموضٌ، سحرٌ، ميتافيزيقيا، منتج للأسئلة للقلق. الرواية تبحث في العموميات رغم الخصوصيات التي تنطلق منها فهي منتج اجتماعي. الشعر منتج نخبوي رغم محاولات سحبه لمنطقة مفتوحة محاولة لإخراجه من الارض الحرام، الشعر لا يبحث عن الكم بقدر بحثه عن الكيف/ النوع.
خامسا/ ولأن الشعر لغة وبناء يقترب من الروح/ النفس بل هو لغتهما، ووسيلتهما للإفصاح عن المكنونات، عمدت السلطة/ الدولة/ القبيلة/ الدكتاتور/ الما وراء إلى تدجينه وتحويله الى مطيةٍ للسياسات/ الايديولوجيات، ومن ثم لتحويله الى دعوة لشن الحروب وإقامة المعارك -أيام العرب- وقتل وإلغاء الآخر، وقد كان للجميع ما أرادوا. 
المتابع للشعر عامة وللتجربة العراقية خاصة في فترة الثمانينات، الفترة الذهبية للحروب والغزو، واقامة شمولية الحزب الواحد وشعار - من لم يكن معي فهو ضدي- يجدُ القصيدةَ كشكل شعري وتحديدا الشكل العمودي قد تحولت دعوة لإلغاء الخصم، ولبلاغ رسمي/ حربي، وتحول البيت الشعري -الشطر والعجز- لطلقة، أو بندقية، وتحولت البنادق لأدوات قتل، وبفعلها هذا اصبحت موازيةً للقلم/ اداة البناء والتنوير عبر شعار (للقلم والبندقية فوهة واحدة) وذلك ليتحول الشاعر الى كاتب افتتاحيات لجريدة ناطقة باسم وزارة الدفاع، الداخلية، ولتحتل الكثير من القصائد الصفحات الاولى من الجرائد الاعلانية، وبات الشعراء لا يختلفون عن حاملي البنادق، أو مفارز الاعدامات زيّاً/ أرديةً وملابس، أو رغبةً في محو النظير، وما يسمى بعملية المعايشة التي ترعاها وزارة الثقافة آنذاك وبالتنسيق مع وزارة الدفاع، العملي التي شملت الادباء والكتاب عامة والشعراء خاصة - عراقيين وعربا، وتحويل المهرجانات الشعرية والندوات الثقافية الى اعلان لتطوع الشعراء للقتال، ولإشعال نار الفتن، والدفاع عن المقدسات، والاحتفاء بالحروب، ولتتحول وزارة الثقافة والجهات الساندة لها، الى ممول اعلامي لمعايشة المئات من الادباء والكتاب والشعراء، والذهاب الى ميادين الحرب في محاولة من المؤسسة العسكريتارية لتدمير روح الانسان المثقف، وتحويله الى قاتل او مرتزق. وحين يؤدلج الشعر يتحول - وكذلك الشاعر- الى مفصل مهم من مفاصل الحركة القمعية التي تشنها وتقودها السلطة، عند هذه النقطة سيجد الشاعر - راكب الموجة- أنه لم يكن إلّا دمية، متخلياً عن شرف الكلمة، وعن دور الشاعر في نقل رسالة الأرض الى السماء، سيجد نفسه في محمية السلطة، وفي قفص واسع اسمه الموت، وفي هذه اللحظة الحرجة سيرفع الشعر الصافي -لا الشعر الذي يولد في غرف العمليات العسكرية- احتجاجاته المتمثلة بخلو فضاء الفن الإبداعي المتمثل بالمنجز الشعري، وبغياب القارئ والمستمع، وضياع النص الرافض لقيم الإقصاء والإلغاء، معلنا أزمته التي باتت تنتج خارج حدوده، أزمة مفروضة على الابداع بتنوعاته. 
الشعر لم يكن في يوم ما ممثلاً لفوضى الكلام التي أُعيد ترتيبها لتمارس عملية الغش والتدليس مستغلة القارئ والشاعر، بل مستغلة الشعر ذاته، ككائن يقف خارج الأقفاص والمحميات، فالشعر لا يمكن أن يتخلى عن خصوصياته في التأمل والقول، وخصوصية المتلقي، وحين يُجبرُ الشاعر على استبدال الخصوصية/ النوعية، بالعمومية/ الكمية، أي استبدال النخبة بالعامة - رغم اهميتها- يخرج النص الشعري من مملكة الإبداع الى عالم الاتباع. 
لقد كان للسلطة المركزية أكثر من دور في بروز أو اختفاء ملمح ثقافي او إبداعي، إذ لا يتكون المختلف الفاعل عن طريق شن الحروب وتدبير المؤامرات والانقلابات الدموية، والاغتيالات، والاتهام بالزندقة وغيرها. الشعر يمتلك قوة الفن والإبداع، السلطة تمتلك البندقية والمعتقل والشطب، فلا مواجهة شريفة من الممكن أن تحدث بين الطرفين. 
والرواية فن إبداعي، يعتمد الحبكة والصراع والواقع جغرافيةً وتاريخاً، وأحداثاً، وشخصيات، أما الشعر فيعتمد الصورة والخيال والتنوير والميتافيزيقيا، الرواية رسالة موجهة، مكشوفة، قد تمتلك غواطس، ولكن المفاتيح بيد القارئ او بالقرب منه، إن الروائي يمنح القارئ المفتاح السري القادر على فتح جميع الأبواب وإلغاء جميع المغاليق، أما الشاعر فله المنحى المغاير، على القارئ أن يصنع المفاتيح التي لا تنطلق، ولا تصنع إلّا من خلال ممتلكاته الثقافية، لتتشكل لكل قارئ مفاتيحه الخاصة، مفاتيح متعددةٌ لكم متعدد من المغاليق.
سادسا/ التجارب الكتابية التي توفر للقصيدة حالة خروق، تجاوز، مغايرة، وتدفع بها بعيدا عن النمطية، والأطرزة السائدة ما هي إلّا محاولات لتخليص القصيدة مما يسميه البعض - الأزمة - إذ إن المياه برمتها- إذا ما اعتبرنا القصيدة كائنا حياً خاضعا للتطور، واستقبال المتغيرات- لا يمكنها ان تعيش من غير إشكالات، خصوم، أشباه، أنداد.. من غير تصادم مع أجناس أدبية أخرى قد تكون الرواية واحدة منها، فالمتابع لشكل النص الشعري منذ بداياته سيجد أن هناك العشرات بل المئات من حالات الخروج على المألوف -هذا ما يشمل جميع مفاصل الأدب، لا الشعر فحسب- ومن حالات انقلاب القصيدة على نفسها، وعبر استفزاز القارئ، وتدمير الحس الشعري الخامل، وتفجير السكونية المنتجة لما يسمى الازمات، كل هذا يحدث بعيدا عن سلطة الدولة بكل أشكالها وتفاصيلها، بعيدا عن سلطة الفضاءات الثقافية بل بعيدٌ عن سلطة الشكل السابق للنص الشعري أو سواه، إن محاولات كهذه -محاولات الخروج على المتفق عليه- تعج بها كتب الشعر، والكتب المهتمة بتقنيات الكتابة الشعرية وبنية القصيدة، بل إن بعض التجارب التي تمتلك ما يمكن أن يسمى التطرف، هذه التجارب تذهب بعيدا في استعارة صيغة عمارة لفنون ابداعية اخرى، كالسينما، والتشكيل، وكتب السحر والتعويذات، لتجد نفسها وسط فضاءات من اللا واقع والفنتازيا، وكشوفات تحتاج الى مخيلات واسعةٍ، قد لا يستطيع الوصول اليها إلّا القلة القليلة من القرّاء، بل ومن الشعراء
 أنفسهم.