الأشياء الحقيقيَّة من الصعب إلغاؤها بالكلام والتوقعات فقط. ومع أزمة انسداد قناة السويس، ظهر من يقول إنَّ «عرقلة» تطوير ميناء الفاو الكبير وإدخاله خريطة العمل التجاري العالمي، إنما تأتي من رغبة الحفاظ على أهمية القناة الاقتصاديَّة. أو أنَّ الربط السككي مع إيران والكويت، تقف خلفه رغبة خبيثة بتعطيل ميناء الفاو. أو أنَّ الطماطم المحليَّة لا تسوّق كما يجب للأسواق العراقيَّة نتيجة رغبة خبيثة أيضاً باستمرار تدفق الطماطم المستوردة.
أو أنَّ التعاون مع الصين سيضرب مصالحنا مع الولايات المتحدة، أو أنَّ التعاون مع إيران سيضرب علاقاتنا مع الصين، أو أنَّ الولايات المتحدة طامعة بميزاننا التجاري مع إيران ... إلى آخر هذه الثنائيات التي تلقى وكأنها فتوحات في الفهم الستراتيجي وهي بالحقيقة ليست سوى قراءة قاصرة محدودة الأفق، لكنها (أعترف) مُتقنة التسويق والشكل.
مراجعة صغيرة لحجم النمو في التجارة العالميَّة وحركة الملاحة ومسارات الصلات الاقتصاديَّة، ستكشف أنَّ العالم يحتاج في القادم من السنوات الى كل منفذ ممكن مع كل جزءٍ من أجزائه المترامية. لن يلغي شيئاً آخر. لن يتمكن أي مسار تجاري من إلغاء المسار الآخر؛ لأنَّ قصة الرياح الموسميَّة التجاريَّة التي كانت تسيّر التجارة في القرون الوسطى لم تعد قائمة.
وإنَّ طريق النقل السريع الذي جرى تنفيذه في الثمانينيات بثلاثة مسارات، سيبقى عاملاً حتى لو أنجزنا الى جانبه، أو في طرفٍ آخر منه طريقًا سريعًا مماثلًا في السعة والطول. كلّها ستعمل، وكلها ستكون مشغولة.
فالعراق الذي كان يحتوي على مليون سيارة قبل أربعين عاماً صار يتوفر اليوم على عشرين مليون سيارة أو أكثر. والموانئ العراقيَّة التي كانت تستقبل كل أسبوع ناقلة أو ناقلتين، تستقبل اليوم عدة سفن تجارية كل يوم.
وبروتوكول التعاون مع الأردن أو مصر، لن يلغي أي شيء آخر، إننا بحاجة الى قرنٍ كاملٍ من بروتوكولات التعاون كي نمحو آثار العزلة والقطيعة التي امتدت خمسين عاماً لأسبابٍ شتى. العالم يتماسك ويتداخل أكثر من أي وقتٍ مضى، ويحتاج بعضه البعض كما لم يحدث في التاريخ.