تفكيك موروث الكراهيَّة في رواية «فئران أمِّي حِصَّة»

ثقافة 2021/04/01
...

 دعد ديب
هسيس الرماد يختتم اللوحة المائلة في مخيلتنا لإرث النار الذي تابعنا سطوره وهو يتتابع بين الشرر واللظى والجمر ليصل إلى الرماد في تقنية حكاية ضمن حكاية برواية سعود السنعوسي «فئران أمي حصة» من إصدار الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات ضفاف لعام 2015، ليكشف فيها عن إرث الطائفية الثقيل الذي يتمدد في جسد الوطن، الذي تجلى وظهر للعلن عبر حادث تفجير المصلين في المسجد بقصد استفزاز المشاعر الدينية من اجل توجيهها ضد الآخر،

 البلد الذي كان وطنًا استقبل الأشقاء العرب من جميع الأقطار وكان حضورهم في العمل متممًا لأركان الفكرة التي عمل الكاتب عليها ورديفًا متنوعًا يعكس حالة الوعي العامة، عبر التنقل بين خطين متوازيين ماضٍ امتد منذ الطفولة بين أصدقاء ترعرعوا وشبوا معًا ليتقصى بذور مرض الطائفية البغيض وكيف يغتال البراءة قبل تفتحها، والحاضر الذي يجعلنا نرى النتائج المدمرة لذلك الإرث، متنقلًا بين حالتين شعوريتين لزمنين يحدث الآن وإرث النار، وفي كل حالة يخرج موروث قديم يطل بأنيابه على المشهد الحالي، تاركًا في نهاية كل مقطع أسئلة مفتوحة تمسك خط التشويق لمتابعة الحدث المتنامي وفهم تطور كل شخصية وفقًا لصراعها مع ذاتها وصراعها مع المجتمع برواسبه وعاداته وتقاليده ملمحًا مرة وصريحًا في الغالب، وهو يكثف لحالات التشدد الاجتماعي في تركيز الكاتب على ملمح التسلط الذكوري لشخصية فهد صديقه على لفظ الأهل وهو يقصد زوجته لحساسية ذكرها ولو بالاسم عند صديقه وربيعه، تلك التي كانت رفيقة الطفولة فضلا عن وضع العقبات لتواصله الإنساني مع عمة المذكور كونه بلغ مبلغ الرجال.
إشارات غامضة منذ بداية العمل عن أولاد فؤادة لنستنتج أنهم خمسة شباب من طائفتين مختلفتين يؤسسون جماعة مناهضة للفتنة الطائفية تيمنًا بفؤادة نزيلة مستشفى المجانين في المسلسل المحلي «على الدنيا السلام» الذي تابعوه صغارًا، وهي تردد وتصرخ في حلقات المسلسل: الفئران آتية احموا الناس من الطاعون! إذ رمزية الجنون في الأدب صوت الحقيقة غير المعترف بها والتي يخافها الجميع وصرختها -صرخة فؤادة- توجز وتكثف مقولة العمل في التنبيه للخطر المقبل والمرض الذي يفتك بأوصال المجتمع، أولاد فؤادة تلك التسمية التي يتعب القارئ حتى يعرفها ويلملم تفاصيلها ويدرك أبعادها في تأويل طاعون الطائفية الذي يقوض مداميك المجتمع ووحدته الوطنية، ولذلك نجد من يريد الاستماع لصوت العقل وينأى عن الاصطفاف مع أي لون أو جهة ذات صفة طائفية يقصى ويحارب من قبل الجميع، وبالأخص من يدعي امتلاكه لمفتاح الجنة ومصير البشر، المفتاح الذي يستدعي الأغنية الشعبية «والمفتاح عند الحداد والحداد يبي فلوس والفلوس عند العروس والعروس تبي عيال والعيال بدا حليب والحليب عند البقرة والبقرة تبي حشيش والحشيش يبي مطر» لنفهم اللازمة التي تتكرر على شفاههم عند كل خبو أمل «يجيب الله مطر».
هذا الخزين للموروث المحلي الكويتي يحضر بقوة كذلك في الحكايا الشعبية باستثمار ملفت وذكي كحكاية اللعب بالمقص الذي يخشى أن يقص الخيوط الخفية التي تربط أفراد الأسرة ويقضي على تشابكهم وتلاحمهم، وقصة سهيل وشهاب اللذين فتنتهما امرأة وعملت الفئران على تفرقتهما، إذ الفئران رمزية للخراب التي استقى العمل منها عنوانه الفريد، كما يلون العمل بقطوف من الشعر تزيد من بلاغة النص وجماليته في فهم عميق لكون الرواية فنا أدبيا شاملا وماصَّا لكل أنواع الفنون الأخرى وقادرا على استيعابها في جنباته وذلك ضمن خصوصية البيئة الكويتية.
يبرز صاحب «ساق البامبو» الصدمة الوجودية للفكر القومي الذي تربت عليه أجيال إثر أجيال عليه، وتدمير الشعار الوحدوي الذي يلقن بشكل يومي في سائر الأقطار العربية بعد الاجتياح العراقي للكويت 1990 وتداعياته، إذ طُرِدَ الفلسطينيون اثر موقف زعيمهم المؤيد للعراق، وتعليب البشر وِفقا لمواقف أنظمتهم، عندما ربط صدام انسحابه من الكويت بانسحاب اسرائيل من أرض فلسطين في لعبة بهلوانية لجر الشارع الفلسطيني لتأييده، لعبة انطلت عليهم وحصدوها نكرانًا ورفضًا من أشقائهم الكويتيين، إذ اختلطت المعايير واهتزت الثوابت عند الجميع، ومن كان نصير الأمة أمسى طريد الأمة في بلبلة المفاهيم وانهيار شعارات الأمس بأمة عربية تجمع وتوحد.
رواية «فئران أمي حصة» يقال فيها الكثير للأسلوب الرفيع في التقاط الفكرة الهادفة وتوظيف المسرود الشعبي لخدمة هذه الفكرة وللنتيجة الأخيرة والفاجعة التي تتكثف بقوله كم كنا فئران تجارب تجهل من يديرها.