اللعبة الشعرية وصراع الذات والخارج

ثقافة 2021/04/03
...

 علي لفتة سعيد
 
 
لم يترك الشاعر سلام مكي عنوان المجموعة الشعرية (مثل نبي يتوسل معجزة) يكون ثريا كاملة للمجموعة أو بابا للدخول الى مدينته الشعرية، بل اختاره واحدًا من النصوص الشعرية التي وصلت الى 30 نصا، لكنه من جانبٍ آخر ترك هذا العنوان ليس لكونه يحمل الازاحات الصوفية أو الفلسفية،بل هو إزاحة قصدية أراده أن تكون مفاتيح مهمة لفكّ شفرات النصوص باعتبار الشاعر قد يصل الى هذه المرحلة فينيب عنه، مثل شاعر يتوسّل قصيدة تشبه معجزة التلقّي،وهو بهذا قد جعل حالة من التفكيك الأولي للنصوص في معتركها الدلالي أمام المتلقّي لكي يأخذه معه تبويب المعاني وما تمنحه المقدرة التأويلية لفهم معنى المدلولات.وهو ما يجعلنا نقترب من عناوينه الداخلية التي تأخذ مسارات غير متساوية الطول والمسافات،فهي تأتي بحسب الفكرة لا بحسب الموسيقى التي يلجأ إليها البعض، ولهذا نرى أن بعضها لها سبع كلمات وبعضها كلمة واحدة وما بينهما تتراوح النصوص الأخرى وهي عناوين تشي بامتلاك المفتاح العام للنصوص لفتح بوابة المدينة لشعرية التي لا يخلو بعضها من ملمحٍ عرفاني أو ملمح وطني، حتى حبّ مغموس بآهات بلاد لم تقف عند حافّاته الحرب لتنظر من الشباك، فهو يسحب النص الى متخيلات عامة لكنه يبثها من نافذته الخاصة التي أرادها أن تكون ميسرة الفهم، متفرّدة المعنى تمتلك خصية الولوج الى تفكيك المحمول الدلالي (ليوهم الطيش انه ما زال صغيرا/ليرتدي، حتى ملابسها الداخلية/ ثم ينزعها امام المارة/ليعود وحيدا، كما تركته الحرب آخر مرة/يحمل على ظهره ثلاثين عاما من الجنون)، وهذا المجتزأ من نص حمل عنوان (بريد مستعجل من الله) ليس لكونه عنوانا جريئا أو أنه ينتمي الى النص الغاضب من الواقع، بل لأنه أي الشاعر مهموم بمحمولات فكرية يريدها أن تملأ ما يريده من مستويات تدوينية فضلا عن المستويات التأويلية التي تندرج ضمن العرفان مثلا.
في هذه المجموعة لا يعتمد الشاعر على الضربة اللغوية أو المفارقة الشعرية.. بل يترك نصّه يأخذ أبعاده في استطالة ليس لاختناق المفهوم الشعري، بل لأن المستوى الإخباري لديه هو الذي يقود العلاقات التدوينية من أجل مسك كل ما هو قادر على عملية التقشير التي تبدأ من العنوان وتنتهي بموضوعة المعالجة النصية التي مازجت ما بين اللحظة الشعرية واللقطة السردية، فأنتجت ثوب القصيدة..ولهذا يمكن رؤية اللعبة تعتمد على البناء الذي يقود الفكرة ويحوّلها من مبناها الحكائي الى المبنى الشعري، ومن ثم الانتقال الى إنتاج الشاعرية التي تعتمد على كمية اللغة الشعرية، وهو ما جعل أغلب النصوص تعتمد على فعل الإخبار ثم يقوم بتبسيط إجراءات الشعر عبر تفكيك الاستهلال الإخباري الى أدواته الفكرية، وهو هنا يعبّر عن هذا التفكيك بطريقتين.. الأولى:التشبيه المتعاكس والمتعارض مع دلالة المفردة المشابهة له. الثانية:التمني والرؤية من الداخل بمعنى ان النص المكتوب هو انعكاس للذات المدونة، وهذا يعتمد على إجراءين مهمين في اللعبة التدوينية من جهة والشعرية من جهة أخرى. الأولى:الذات التي تحكمها صيغة المتكلم أو حتى الغائب المنيب عن المتكلم سواء كان غائبا مفردا او جمعا. والثانية: الموجه الخارجي لمفهوم النص حيث يعني أنا الارتباط معه، والموجه له الخطاب النصي، وهو الامر الذي يجعل النص يبدو طويلا.(أشتهي../أن أطرق الابواب في الليل/وأهرب/ ثم التفت:فلم أجد أحدا يلحق بي) من نص (اشتهي أن أشتم كل من أصادفه) ص65، ولهذا يبدو الاستهلال مناورة إخبارية في أغلب النصوص كونه يترك المساحات التفكيرية خاضعة لقدرة المتلقي على استفهام العلاقات المنتجة ما بين الذات والآخر/الخارج المعني..وهذه المناورة احتاجت ايضا الى زمنين لترتيب محتوى المستوى الإخباري،هما الفعل الماضي الناقص (كان واخواتها) والحاضر حيث لتشبيه (مثل) و(حيث) وهو ما يترك البنية الكتابية عبارة عن منتج شعري بثوب سردي يحتاج في بعض الأحيان الى علامات التقطيع وبعضها الاستمرارية مع الاعتماد على مقدرة المتلقي في استخراج العلاقات الشعرية في النص واستخلاص الشاعرية منها.
إن البنية التدوينية في نصوص المجموعة تعتمد أيضا على فرش مفردات عديدة تلتقي مع عملية التفكيك من جهة، وتسابق الفعل الزمني من جهة أخرى.. ولهذا فإن المناظرة بين الفعل والتشبيه يمثل المناظرة ما بين الزمن والمفردة (عودي قبل ان ترتجف الجدران/ فهي واهية كقلبي/ عودي قبل أن تأكل الشمس ملامحي/ فلا تعرفيني) ص56 (كنت انتظر من النافذة/ أن يرميني بما جناه/ لكنه حلق/ برغم أنه بلا جناحين/ فبقيت بلا عمر/ لكني أملك جناحين/ أهب ريشهما للذين يريدون التحليق) ص115.
إن هذه المجموعة تلعب على مساحات تدوينية عديدة تخرج من جوف مستواها الإخباري المستوى التصويري،إذ يرسم اللحظة الزمنية وما هو مرتبط بها، ويرسم المستوى التأويلي وما ينتح عنه،مثلما يمنح قامة للمستوى التحليلي لكي يكون قابلا على المناورة في توزيع الحاصل الشعري..فهو بعد كل ما يفرشه من مفردات متصارعة تعمل على تصعيد الفعل الدرامي للنص من خلال التحول من الأنا / استهلال النص/ الى الخارج الآخر حيث المحتوى المرسل الى القصدية / ثم العودة الى الذات لربط ما يعتري الشاعر من محمولات غاضبة اتجاه واقعه وما يحصل فيه (لذا:لا يمكن ن أبقى عاريًا ووحيداً حتى/أعود الى هيأتي الأولى/وسأبقى محلقًا في الفراغ)ص86.