جبال وثلوج وتغيرات مناخ.. وصفة مثالية للكارثة

بانوراما 2021/04/04
...

 
  هنري فونتين
  ترجمة: أنيس الصفار 
الطوفان الكاسح الذي تسبب قبل أيام بالقضاء على حياة عشرات الناس وفقدان المئات منهم في منطقة الهملايا الهندية، لم يكن أول كارثة من نوعها تقع في أعالي المناطق الجليدية الزاحفة، كما انها لن تكون الأخيرة في عالم يعاني من تغيرات المناخ.يقول العلماء إن انكماش رقعة المناطق الجليدية الزاحفة وتضاؤل سمكها، هي أبرز الشواهد على الاثار التي يحدثها ارتفاع درجات الحرارة على نطاق العالم بسبب انبعاثات غازات الدفيئة. سرعة انحسار مساحات الثلوج في المناطق الجبلية حول العالم جرى قياسها، فوجد أن المعدل يصل احياناً الى 100 قدم أو اكثر في السنة. في الهملايا، التي تعد أوفر السلاسل الجبلية ثلوجاً في العالم وموطن ما يقارب 600 مليار طن من الجليد، أخذت عملية الانحسار بالتسارع على مدى العقود الأربعة الأخيرة
انحسار الجليد
ثمة قلق على المدى البعيد بشأن ما يعنيه فقدان المساحات الجليدية بالنسبة لمليارات البشر في مختلف انحاء العالم لمن يعتمدون عليها ولو جزئياً للحصول على مياه الشرب وفي الصناعة والزراعة، بيد ان الخوف الأشد هو ذلك المتعلق مباشرة بسلامة من يقيمون على مقربة منها.
حين يفقد الثلج يتحرر الماء، وفي الهملايا كما في أماكن أخرى يأخذ بعض ذلك الماء بالتجمع في بحيرات اثناء جريانه على منحدرات الجبال، إذ يعترضه ركام الحجارة الذي سبق أن خلفته ورائها انهار الجليد الهائلة الزاحفة في أوقات سابقة فيحتجزه، لقد تزايد عدد البحيرات الناتجة عن ذوبان الجليد في شتى انحاء العالم، وارتفع اجمالي ما تحتجزه من مياه بمقدار 50 بالمئة منذ العام 1990.
يقول “يوميش هاريتاشيا”، من جامعة ديتون بولاية أوهايو الذي يدرس مخاطر الانهار الجليدية الزاحفة: “نحن موقنون مئة بالمئة أن تغيرات المناخ هي السبب في تولد تلك البحيرات وتضخم أحجامها.”
تمثل البحيرات الثلجية تهديداً جدياً لأن السد الذي يحتجز الماء، المكوّن من ركام الحجارة والصخور، قابل للانهيار تحت ثقل كتلة المياه او بفعل هزة أرضية، أو حتى بسبب انهيار جليدي يأتي من مناطق تقع فوق البحيرة يرسل كتلاً من الجليد والصخور لتسقط فيها. أياً يكن الأمر فإن النتيجة هي حدوث تفجر مائي كارثي مفاجئ قادر على محو التجمعات السكانية والبنى التحتية في الوادي الواقع أسفل المجرى.
فيضانات التدفق المفاجئ، كما يطلق عليها، وقعت ولا تزال تقع على امتداد التاريخ. ففي أوتاراخـُند شمال الهند دمر تفجر مائي وقع في العام 2013 قرى كاملة وتسبب بهلاك عدة ألوف من أهالي المنطقة.
في أماكن اخرى من شبه القارة امتدت تأثيرات فيضانات التدفق المفاجئ في العام 1929 الى أن بلغت نهر السند على مبعدة 800 كيلومتر تقريباً. وفي جبال الانديز، في بيرو، أهلكت فيضانات المناطق الثلجية ما يقدر بنحو 30 ألف شخص منذ الأربعينيات.
في سويسرا وبعض الدول الأخرى أقام المهندسون أنظمة شفط لسحب مياه البحيرات التي تشخص كمصدر خطر على التجمعات السكانية او البنى التحتية، بيد أن أمثال هذه المشاريع قليلة العدد في انحاء العالم ومتباعدة ولا يمكنها مجاراة التزايد المستمر في أعداد البحيرات المتولدة من مياه الثلوج.
 
تجمد الثلوج
ارتفاع درجات الحرارة يمكن ان تكون له تأثيرات تتعدى ما تحدثه الانهار الجليدية الزاحفة، لأن ذوبان الثلوج ثم عودتها الى التجمد ثانية داخل التشققات الصخرية على السفوح الجبلية يمكن ان يؤدي الى زعزعة استقرار تلك المنحدرات وجعلها اكثر عرضة للانهيار.
يقول “دان شوغر” المتخصص في الجيومورفولوجي من جامعة كالغاري بكندا: “نحن نرى تصاعداً في حالات زعزعة الاستقرار عند أعالي الجبال يفوق ما كنا نتصور.”
من المبكر بعد ربط الكارثة التي حدثت في أوتاراخـُند مباشرة بالتغيرات الجوية، ولكن زعزعة الاستقرار بسبب ذوبان الثلوج قد تكون هي المتسبب الفعلي. 
تقول الحكومة الهندية ان الانهيار الجليدي الذي سقط في النهر وتسبب بحدوث الطوفان كان سببه انفصال جزء من كتلة جليدية على ارتفاع شاهق، بيد ان العلماء الذين حللوا صور الأقمار الاصطناعية لمرحلتي ما قبل الكارثة وبعدها يقولون ان السبب الأرجح هو أن منحدراً صخرياً قد انفصل بالكامل وهوى من ذلك الارتفاع.
يقول “ديف بيتلي” نائب رئيس قسم الابتكار في جامعة شيفيلد البريطانية، الذي امضى زمناً طويلاً في دراسة الانهيارات الصخرية، ان مثل هذه المنحدرات تحوي في اغلب الاحيان تشققات صخرية كثيرة، والثلج المتغلغل في تلك الشقوق يفعل فعل المادة الماسكة التي تجمعها معاً. لكن مع ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف يأخذ الثلج بالتلاشي وهذا يضعف تماسك الكتلة الصخرية بسبب زوال المادة الماسكة لها.
 
الماء المعضلة
من الأمور الغامضة المثيرة للتساؤل المصدر الذي جاءت منه كل تلك المياه التي أحدثت الفيضان والتي انضمت الى رواسب الجريان فشكلت جداراً من الوحل استمر في انحداره الى نهر ريشيغانغا مكتسحاً في طريقه البيوت والناس ومخلفاً وراءه محطتين كهرومائيتين في حالة دمار.
في البداية اعتقد عديد من العلماء ان تلك  الكمية الهائلة من الماء لابد ان تكون ناتجة عن تدفق فيضاني، ولكن صور الأقمار للموقع قبل الكارثة لم تظهر فيها أية دلائل على وجود بحيرة كبيرة الحجم.
يطرح الدكتور بيتلي احتمال ان يكون الانهيار الصخري (الذي ربما كان بنطاق عشرات ملايين الأمتار المكعبة من الركام الحجري) قد صادف في طريقه كتلة جليدية فأدى الى تهشمها، لأن الانهيارات الصخرية تكون عالية الطاقة وذات طبيعة فوضوية، كما يقول بيتلي.
هذا الانهيار، الذي اصبح الان خليطاً من الصخور والجليد، أكمل طريقه الى اسفل المنحدر مولداً حرارة كبيرة بسبب الاحتكاك، وقد تكون هذه الحرارة هي سبب انصهار الثلوج وبالتالي من المحتمل ان تكون مصدر المياه. 
يقول بعض الباحثين ان الغطاء الثلجي السميك في تلك المنطقة، الذي يحتمل ان جزءاً منه كان آخذاً بالذوبان على مدى الايام السابقة للكارثة، ربما كان له دور ايضاً فيما حدث لأن كتلة الصخر المنحدرة، وجليدها الذي ذاب وتحول الى ماء خلال ذلك الوقت، واجهت عند وصولها الى قاع الوادي كميات كبيرة من الرواسب التي خلفها الانهيار الارضي في العام 2016 ، وهو الانهيار الذي لا تزال ندوبه ظاهرة في صور الاقمار الاصطناعية. من المحتمل أن تكون تلك الترسبات قد اختلطت بالركام النازل هي أيضاً ففاقمت من قوة صدمة الفيضان.
تقول “مايلين جاكومرت”، وهي باحثة في الانهار الجليدية الزاحفة من جامعة كولورادو: “مما رأيت يمكنني القول ان سلسلة الاحداث ربما تكون قد ابتدأت في 2016.”
سلسلة الاحداث هذه قد تبدو وكأنها مجرد توافق عارض لن يتكرر، ولكنها ليست كذلك كما تعتقد الدكتورة جاكومرت. فالانزلاق الطيني المدمر الذي اصاب قرية “سانتا لوتشيا” الشيلية في العام 2017 كان يتبع نسقاً مماثلاً.
 
مصادر أخرى للخطر
الفيضانات المتدفقة وانهيار السفوح الجبلية والمنحدرات المعرضة لذوبان الجليد ليست مصادر الخطر الوحيدة التي لها علاقة بتغيرات المناخ، فكتل الثلوج الزاحفة إنما هي نهر متجلد، وهذا الجليد يعمل عمل متراس وسطي ساند للمنحدرات على الجانبين، وعندما تنحسر كتل الجليد هذه ويرق سمكها تفقد المنحدرات متراسها الساند فتكون النتيجة حدوث انهيارات مفاجئة وتداعي كتل من الجليد والصخور إذ يرتطم حطام صخور المنحدرات بكتل الجليد
 الزاحفة.
في السنة الماضية قرع العلماء نواقيس الخطر محذرين من احتمال وقوع كارثة من هذا القبيل في منطقة لسان برينس وليام البحري في خليج ألاسكا، وهو لا يبعد كثيراً عن مدينة أنكوراج، حيث فقد سفح منحدر يقارب طوله ميلاً واقع على امتداد الممر البحري معظم دعاماته الساندة بسبب انكماش رقعة الجليد، وبذا ارتفعت مخاطر حدوث انهيار ارضي وسقوطه داخل الممر. لو حدث ذلك لهددت موجة التسونامي العاتية المفاجئة الناتجة عنه حياة الصيادين وزوارق صيد السمك في تلك الانحاء مع احتمال التسبب بتدمير قرى ساحلية بأكملها.
كلما تسارع ذوبان الأنهار الجليدية ارتفعت معه سرعة انزلاق الكتلة الجليدية، لأن مياه الذوبان تفعل فعل التزييت بين الجليد والطبقة الصخرية الواقعة تحته. في بعض الاحيان يتسارع جريان الكتلة المنزلقة الى حد يجعل مقدمتها تنكسر وتنفصل فجأة، كما تقول الدكتورة جاكومرت.
تضيف جاكومرت أن انفصالين من هذا النوع قد وقعا في العام 2016 بفاصل شهرين عن بعضهما في سلسلة آرو بالتبت.