تبدو لي دائماً الدراسات ذات الصبغة الاستشراقيَّة مهمة جداً لأنها تمثل وجهة نظر من (آخر) مختلف قد لا نوافقه الرأي وقد لا تكون أحكامه دقيقة أو حقيقيَّة أو حتى واقعيَّة ولكنه يبقى آخر مغايراً له عينه الثاقبة التي يرى بها حياتنا وتقاليدنا وموروثنا من وجهة نظره هو ممّا يشكل فرصة لنا لرؤية أنفسنا في مرآة الآخرين. لذا فرحت جداً بالحصول على نسخة من كتاب (ضيوف الشيخ) للباحثة والمخرجة السينمائية والكاتبة (اليزابيث وارنوك فيرنيا) التي زارت العراق وتحديداً منطقة الفرات الأوسط وعاشت في منطقة الدغارة إحدى أقدم نواحي محافظة الديوانية التي أسّست منذ العام 1877 في زمن مدحت باشا (1822 - 1884) وتشتهر بجودة رزّها ونهرها الفراتي الأصيل وطبيعتها الجميلة حتى أنَّ الملك غازي رحمه الله (1912 - 1939) له قصر فيها وهو من معالمها السياحيَّة المعروفة.
تبدأ اليزابيت (1927 - 2008) كتابها قائلة: “قضيت أول سنتين من عمر زواجنا في مستوطنات القرية وبالتحديد في أطراف إحدى القرى جنوب العراق وقد كان زوجي مختصاً في دراسة علم الاجتماع وكان يعمل أطروحة الدكتوراه في جامعة شيكاغوا وهذا الكتاب عبارة عن قصة شخصية لسنين عشتها بين النساء المحجبات اللائي ينتمين إلى جنسي نفسه حيث يعشن في بيوت من الطابوق الطيني (اللبن) ومحاطة بجدران عالية من الطين”.
وعلى هذا المنوال من البساطة الآسرة تستمر الباحثة بلغة واضحة وسهلة في سرد أحداث كتابها المهم والممتع جداً الصادر بـ (148) صفحة من القطع الكبير بترجمة رائعة للأستاذ فاهم جفات سلمان ومراجعة وتعليق من قبل الأستاذ حسين الشيباني.
هي الشابة المتزوجة حديثا الشغوفة لمعرفة التفاصيل كلها .. وأولها تفاصيل الحياة اليوميَّة في تلك القرية الصغيرة (الدغارة) فكتبت مذكراتها مدونة حياتها حيث عاشت هناك ثمانية عشر شهراً (1956 ـ 1958) ومنهنّ شهر العسل في بيت من الطين، إذ كانت متزوجة حديثاً، وهي ترصد بعين امرأة غربيَّة وغريبة أدقّ التفاصيل بدءاً من أسلوب الحياة الاجتماعيَّة بين الأسر القرويَّة وتقاليدهم المتوارثة وطبيعة النظام القبلي الذي يسود المكان، مروراً بتأثير الزراعة وأثر الماء ووفرة المحصول في هذا المكون الاجتماعي الصغير هي وزوجها وهما في ضيافة الشيخ موجد شعلان آل عطية (1900 - 1973) زعيم عشائر الأكرع لتنتج كتاباً هو أقرب إلى دراسة ميدانيَّة حول العلاقات الاجتماعية في منطقة مهمة وفي لحظة تاريخيَّة فاصلة من تحولات المجتمع العراقي.
قسمت الكاتبة موضوعات الكتاب تحت عنوانات متنوعة منها: (حرم الشيخ، نساء العشيرة، نساء المدينة، الغجر، التدبير المنزلي، مشكلات الحجاب (البرقع) مقابلتي مع الشيخ وغيرها).. وقد حاولت تصوير كل ما تراه بدقّة وأمانة فنقرأ مثلاً عن طقوس ومراسيم شهر رمضان ومحرم وتفاصيل واجبات اليوم عند المرأة والرجل وغير ذلك وعن الأزياء والاكسسوارات وتقاليد المجتمع وعاداته.
وقد ختمت الكاتبة رحلتها الورقيَّة بملحق للصور للكتابة وزوجها وبنتيها وكذلك بعض الرسائل التي وصلت إليها..
وككل نتاج معرفي لا بدّ من وجود هفوات أظنها عائدة للترجمة منها خلو بعض الجمل مع علامات التنقيط، فلا توجد فوارز ولا أقواس ولا علامات تعجب أو استفهام ممّا يؤثر في قراءة الكتاب لذا أتمنى أنْ يعاد طبع الكتاب بطريقة أكثر احترافيَّة لما له من أهمية كبيرة وأنْ تراعى هذه الأمور الفنيَّة التي لا غنى عنها أبداً.
فـ(بيجه) وهو الاسم الذي أطلقه أهل الدغارة على الكاتبة الأميركيَّة اليزابيث كتبت واحداً من المصادر النادرة عن الحياة العراقيَّة في نهايات العهد الملكي، أما زوجها روبت فيرينا فقد كان يسمى (مستر باب) وهو الاسم الذي أطلقه هو على نفسه لأنه كان يجلس دائما قرب باب المضيف واستسهله أهل الريف لصعوبة نطق الاسم الانكليزي عليهم ومن الجدير بالذكر أنه له هو الآخر كتابٌ أيضا عن هذه الناحية وقد ترُجم أيضاً.