لم تترك وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة من مجال أمام مدراء الحروب أو قادتها إلا أنْ يحسبوا لها حساباتها، بالضبط كما يحسبون ميدان المعركة الفعلي والإطار التعبوي للأسلحة والقوات التي ستدخل في تلك الحرب. يقول الباحث ستيفن الفاريز، في كتابه (تسويق الحرب - نظرة نقديَّة لآلة العلاقات العامة المرافقة للحرب الحديثة): «حين درست خطاب سلطة الائتلاف المؤقتة في العراق بعد عام 2003، وجدت أنها لا تخاطب العراقيين بشأن أي تقدّم تحرزه على الأرض، بينما أفرطت في تسويق نتائج غزو العراق للجمهور الأميركي وسوّقتها وكأنها نتائج «مبهرة» لقرار الغزو، بينما كانت مجموعة مسح العراق (ISG)، المكلفة بإيجاد أسلحة الدمار الشامل العراقيَّة تمسح العراق من طوله وعرضه. لقد بدا وكأنَّ سلطة الإئتلاف كانت تخاطب الجمهور الخطأ. إلا أنَّ هدف التسويق لم يغب عنها، لقد كانت تخاطب الجهة التي تموّل عملها، وتقنعها بأنَّ ما صُرف على الحملة العسكريَّة يستحق العناء”.
وصار معلومًا أنَّ مفهوم الرأي العام، قد جرى التطويح به لصالح رأي عام مختلق، يمكن في كثير من الأحيان (إيهام) الرأي العام الحقيقي، بأنَّ هناك رأياً آخر (لا أحد يعرف حجمه بالضبط)، يعاكس الشائع من الرأي العام الذي يتلمسه العوام أنفسهم عبر مستشعراتهم الإدراكيَّة.
في هذا الشأن، يقول الباحث د.بن منصور عبد الله، جامعة تلمسان في بحث عن “آليات التسويق لصناعة منتجات سياسيَّة والتأثير على اتجاهات الناخبين”، يقول: “إنَّ بقاء المنتجات السياسيَّة واستمرارها صار مرهونًا بمقدار براعتها في وتمكنها من تسويق أفكارها الى الناخبين. وبمقدار تحكمها وتوجيهها وفق إرادتها. وهذا لن يكون إلا من خلال تطوير وصنع الشخصيَّة السياسيَّة، التي ستمثل القناة لنقل تلك الأفكار. ويتم ذلك باستخدام تقنيات وآليات وستراتيجيات التسويق التجاري الذهني أساساً”.
بعبارة أخرى، إنَّ تسويق الشخصيَّة (شخصيَّة القائد السياسي المتخذ لقرار الحرب)، بات مرآة واضحة للتأثير في قبول الجمهور نتائج تلك الحرب وتقبّل خساراتها.
أدركت الآلة التسويقيَّة (ومن خلفها آلة التخطيط السياسي) هذه الأهميَّة، وانعكس ذلك بشكلٍ أو بآخر على ما تقدمه السينما للجمهور، بوصفها منصة خطاب ممكنة أخرى.
وفي فيلم (المنطقة الخضراء -2010)، الذي أدى دور البطولة فيه النجم مات ديمون، يطرح الفيلم بصورة ناقدة سلسلة قرارات خطيرة أدت الى تدهور الأوضاع في العراق في ظل الوجود العسكري الأميركي. لكنَّ هذه الأخطاء كانت من النوع السياسي، الذي يقتنع معه المشاهد بأنه هو شخصياً كان من الممكن أنْ يرتكب مثله لو أنه وجد نفسه في مقعد صنع القرار.
الفوضى في العراق وصعوبة التواصل، والعدائيَّة المفرطة من البيئة المحيطة للجنود الأميركيين (الذين تتعاطف معهم السينما الأميركيَّة تقليدياً)، أدت الى ارتكاب أخطاء وتفاقم الأوضاع وكأنَّ مسوّق الفيلم (ومن خلفه مسوّق فكرة الأوضاع في العراق) أراد أنْ يقول: فقط لو أنكم أعطيتم أنفسكم وأعطيتمونا فرصة، لكنّا صنعنا في العراق ما يشبه المعجزة بعد إزاحة التظام الدكتاتوري.
لنتذكر أنَّ المشهد الأخير من فيلم لورنس العرب، يشهد (يأس) لورانس من إصلاح الأوضاع، وركوبه سيارة في الصحراء وينطلق بها بعكس الاتجاه. وكأنَّ الخطاب يريد أنْ يقول: العلّة ليست في لورانس (رغم كونه جاسوساً ومتآمراً)، ولا في من وظفه، إنما العلة في أهل الأرض، إنهم لا يريدون الإصلاح.
آلة تسويق و(تسويغ) العمليات العسكريَّة صارت جزءًا لا يتجزأ من الاستعدادات اللوجستيَّة. وأصبحت عملية رصد الأموال للـ(العلاقات العامة)، بندًا لا أحد يغفله. والجهود على السوشيال ميديا تدخل فعلياً على منضدة الحرب والمصغرات التي تراقبها الرتب العسكريَّة وتحاكي عليها حركة القوات على الأرض.