فلاح حسن الخطاط
رحل بلاسم محمد الملّون ورقيق الإحساس المرهف.. الساخر من الحياة، محاولاً إزاحة ركام الحروب والخراب الذي حلَّ بها.. الحالم أنْ يرى أفراد شعبه سعداء.. وبغداد أجمل عاصمة.
فما بين سبابته وإبهامه صنع بفنه تاريخاً ناصعاً في عالم التصميم والخط العربي وفن التشكيل، ومنذ خطواته الأولى التي قادته للولوج في عالم الفن، أخضرت بين أنامله عاصفة من الحروف ومشقها، أهلته لدراسة الخط العربي في معهد الفنون الجميلة وفن الكرافيك والتصميم، ليبدأ مشواره المهني في صحافة الأطفال «مجلتي، المزمار» ورحلته في تصميم وإخراج الصحف والمجلات، منذ أنْ انسبكت أبعاد وحجوم على ورق الماكيت وبروف المطبوعات التي أخرجها وأشرف على طباعتها.
واصل بلاسم دراسته للرسم وتاريخه، ونظّر في «الفراغ في الفنون الإسلامية»، واصفه عنصراً من عناصر العمل الفني التي أفرزته الطبيعة والأرض والحياة الاجتماعية والتاريخية للعرب. بالوقت أن البحث في هذا الجانب لم يتبلور إلا عندما بدأ الاهتمام بالفن الإسلامي، ودراسة فن العمارة الإسلامية وما تحمله من فنون الزخرفة والكتابة.
ومنذ وقت وهو يرسم بنظام تدويني مشفر يومياته التشكيلية، على خامات متنوعة للخروج من الكتابة أو الإعلان، ومع كل لوحة تشكيليَّة يقرر الخروج من الرسم. فاللوحة تخفي أحزاناً ومواضع متأسية أو مفجوعة، يجعل من ركام الهموم وأنواع الآلام أشكالاً جماليَّة، وتحويل تواريخ الأسى الى الإشراق والأمل.
هذه هي ميزة أعمال بلاسم كونه انتقائياً، يبحث من الخصوصيَّة التي تشكل هدفاً يتيح له البحث والتنقيب في الأصول الحية للتراث، وهي تسير بمحاذاة التجديد وبخبرته الثرة نرى فناً يتجاوز الإشارة الصعبة ونتاجاً جمالياً وذائقة تملؤها الدهشة والافتتنان برؤية العمل الفني. سنوات من المفاجآت، وهو ينتج فنه حاملاً اضطراباته، مثل أشواك فاتنة. لكشف ألغاز كل منظور وحرف وكتابة، مبرهناً على سطوح هاربة من رثاء الأمكنة وفضاءاتها.
كم كان بلاسم يراوغ معنا ليفتت إحساسه بالرسم، وضحكه الجنوني وسخريته ليس إلا تفكيكاً وبناءً لحسٍ متراكمٍ من الأسى بداخلنا، ويعرّض ذواتنا وهي تنوح في خرافتها وآمالها الخادعة وفقدها الكبير.
غيابه المفاجئ يحيلنا الى زمنٍ لجنوننا ولعزلتنا لما غير متوقع.. خارج سلطة الوعي اليومي لمحنة حياتنا اليوم.. وداعاً بلاسم فكم سخرت من الحياة، وها أنت تسخر من الموت.ـ