توقيع بلاسم محمد

منصة 2021/04/12
...

 د. مالك المطلبي
«في حضرة الموت لا تصبح الألقاب طارئة فقط، بل زائفة»
 قبل ستين عامًا تشكل وعيي وأنا أبحث عن المعنى من دون أنْ أعثر على دليلٍ يؤدي إليه. اليوم فقط في تمام الساعة الثالثة، التاسع من نيسان 2021 استطعت العثور عليه، لكنه كان يحمل اسمًا آخر، هو (اللامعنى) اللامعنى هو أنني لا أستطيع البكاء، ولا أستطيع الانتحار. إني ألجأ إلى الله فارغًا كالنقاء، وأسأله أنْ يهديني إلى سبب، ولو تلميحًا، لعلّة وجود اللامعنى. أو يمدني بالاستطاعة، ولو بمقدار ما يحتاج إليه مخلوقٌ واحد. 
 
الخطوط التي أرسمها الآن هي آثار دموع تحجّرت في داخلي، وسالت في إثر تلك الرحلة الأبديّة التي اختارها، أشدد على كلمة اختارها، بلاسم محمد. حين وقف (لبيد) وقال لي: « شلون صحتك؟، صدمني السؤال لساكن معي، في بيت واحد؛ يخطر أمامي كل لحظة. لكنني سرعان ما تلقيت السؤال بقصده، لا بلفظه، فترجمته إلى هل أنت مستعد؟ تلاه نطق بلاسم. مات.
خطفت التلفون واتجهت إلى المقبرة التي تسمى (فيسبوك). كانت الصور تنهمر بسوادها ولافتاتها. سيل التعازي المُحبّة للألم تُوقِّع بمداد غليظ خانق على قطعية الحدث. لم يعد ثمّ أمل للوهم. الانزواء هو جنّة المتعبين. زمان طويل ممتد من الأضواء التي تنير داخلي، ويتعاقب انطفاؤها، أقرباء وأصدقاء ورفاق طريق يتركون صدماتهم مثل حفر في طريق مهجور، ولكن الاستئناف كان هو الممكن الوحيد الذي يعقب مواجهة الفَقْد المستمر. إلا بلاسم فلم يعد من طعمٍ ما يموّل حركة استئناف الحياة. أنا الآن منخرط في درجة صفر الحياة التي أسميها اللامعنى.
قلت لتوأم بلاسم (حسام عبد المحسن):، بعد رحيل السيدة الكريمة الفاضلة (أم ساره). لا تفارقْ بلاسم. لا أتذكّر حرفيًّا ما قلته، لكنني أشعرته بالخطر الذي يهدد بلاسم. لم يكن بلاسم مستعدًّا لمواجهة أي عبث بنظام الحياة، ولو كان عابرًا. فكيف وهذه الصدمة الهائلة التي داهمته فجأة ليصبح الطريق إلى قلبه سالكًا.
 
ثقافة الأطفال
في الثلث الأول من السبعينيات عملت في دار مجلتي والمزمار، رئيسًا للتحرير، وهناك بدأت رحلتي مع تلك المجموعة (التشكيليين حصرًا) التي لا تتكرر من شباب يؤُمّون الفنّ، وسميتهم سدنة معبد الفن، عبد الرحيم ياسر وعلي المندلاوي، وأديب مكي، ومنصور البكري، وهناء مال الله، وكاظم شمهود، وبلاسم محمد، وحسام عبد المحسن، وسهام كَوركَيس، ونبيل يعقوب، وبيان صفدي، ومن بقي من الرعيل الأول (طالب مكي) وكان هناك اسمان يخطوان آخر خطواتهما في الدار، قبل أنْ يهاجرا؛ فيصل لعيبي، وصلاح جياد، بحثًا عن الحرية المفقودة. الآن وأنا أكتب ورقة قد يستنطقها التأريخ، في لحظة ما، أشير إلى مركز الدائرة التي منها تنطلق الخطوط، وإليها تعود: بلاسم محمد ليس لكونه خطاطًا ومصممًا ومخرجًا، ورسامًا، يجيد العمل في نطاق تنفيذ عمل موكل إليه، بل لأنه كان يعمل في نطاق رؤية لمشروع مستقبليّ. لا أتكلم على الروح الجميلة، والوعي الذي تسقط في شراكه أفعال الجميع، ولاسيما ذوو القابلية في الوقوع في هذه الشِّراك، بل على بلاسم وقد رأيته، في الرؤية، والرؤيا، ممُسكًا بعُشبة الخلود التي سقطت من يد نسغه الأول (كَلكَامش). قابضًا على عناصر التكوين المستقاة من الرسم، أما الشعر فمجرد سجل لحفظ
الوقائع.
كليّة الفنون الجميلة
كبِرَ القوم وأسسوا شركة طباعة ونشر. كنت أزورهم هناك وقد بلغوا سن رشد الاحتراف، يعملون بلا كلل، غير أنهم لم يتنازلوا عن أحلامهم قطّ. هناك عرضت على (بلاسم) أن يربط طاقته الفنيّة الحرة، بقيد الدراسة الأكاديمية. وهكذا كان، وكنّا، بشفرته الفنية، وأنا بمعرفتي النسبية في البحث المنهجي، شققنا طريقنا داخل الكلية بلغة جديدة، فإذ كانت الدراسة العليا تتأطر داخل بحوث مراوحة؛ تتعلق بتأريخ الفن، ودراسة حياة الفنانين وتسمية اتجاهاتهم من المصادر، اتجهنا نحو الكليات؛ البحث في المفاهيم. فدرس هو في الماجستير الفراغ في فن الأرابسك، وكنت أنا أحد مناقشيه، وقد جرعته صدمات المناقشة، وكانت ابتسامته الفيض الذي يأخذني إلى مديات غير محدودة. ثُم أشرفت على رسالته في الدكتوراه (التحليل السيميولوجي في الرسم) بعد سنة تحضيرية التحق فيها طالبان فقط، عاصم عبد الأمير، وبلاسم محمد. كنا نقطع ساعات في اليوم في حلقات نقاشية ومراجعة نصوص وكتابة تقارير، ولم أشعر قط بأنهما يبغيان أن يخطفا شهادة (على الماشي) بل اختارا المركب الصعب، وواصلا التحدي حتى وصلا. وفي نهاية المطاف كنا – بلاسم وأنا، زميلين في الهيأة التدريسية، في كلية الفنون الجميلة. لكنه ظل يزودني بشعور لا تكلّف فيه، بأنه هو هو، بصمة واحدة لا تقبل الاستنساخ.
 
العُزلة والتَّوقيع
في عزلتي المركبة من الشيخوخة، والفايروس، وفقدان الأمل بدولة العدل والحرية، كلما ألمت بي الضوائق، وأخذتني الأحزان إلى مثاويها، نقرتُ الموبايل وكلّمته, سأعود بعد ربع ساعة، أو أزيد بشعور مريح. من أين يأتي غرس هذه الطاقة الإيجابية؟ بلاسم هو أحد أعظم مؤلفي (كتاب الحياة)، وخزانتي تمتلك العديد من الأوراق على شكل كتابة صوتية ومرئية من ذلك الكتاب الذي يحمل آخر توقيع له.