فضاءُ الحكي وفنُّ القصّة القصيرة

ثقافة 2021/04/12
...

  محمد صابر عبيد
 
لا يوجد إنسان عاقل أو حتى غير عاقل في العالم عاجز – من حيث المبدأ- عن الحكي على نحو أو آخر، أو ليس بحاجة ماسة وضرورية له في كل مكان وزمان وحال وموقف ومقام، مهما زعم الاستغناء عنه بحجة أو أخرى، أو ادعى أنه غير راغب في الإصغاء له وتجاهله لسبب أو آخر، فهو مادة الحياة ومحركها وزينتها ومصيرها أولاً وآخراً، ولولا حضور الحكي البدهي في الكون لما كان قيل: «في البدء كانت الكلمة»، وربّما يُقصَدُ من مفهوم الكلمة «الكلمة المكتوبة والكلمة المنطوقة معاً» ولا يمكن أن تولد الكلمة المكتوبة قبل ولادتها النُطقيّة المحكيّة، إذ لولاها لظلّ الناس محجوبين عن بعضهم في حوار صامت لا يُجدي يوصف شعبياً وثقافياً بـ«حوار الطرشان»، فلا يصل بينهم ذلك الجسر الهائل من المحبّة والمشاعر والعواطف والانفعالات المزدانة بحلاوة الحكي ولذائذه المشتهاة، حيث صارت محكيّات «ألف ليلة وليلة» على سبيل المثال أيقونة سرديّة عالميّة تعلّم منها البشر في كلّ مكان سحر الحكي، وتعرّفَ الناسُ إلى قدرة هذا الحكي على تغيير المصائر وإشاعة روح الألفة والتسامح والقبول والجمال في الحياة.
وبما أنّ الحكي مدارس وأساليب ومشارب وطبقات ومقامات وتموّجات واجتهادات وابتكارات ومناهج وتيّارات، يخضع في ذلك للأزمنة والأمكنة والأحداث والمواقف والرؤيات والشخصيّات ولطبيعة الحوارات والخطابات والتفوّهات، فإنّ النظر في جوهره ينبغي أن يكون عارفاً وواعياً ومدرِكاً لكثير من حقائقه المركزيّة وأقسامه وأجزائه وهوامشه وتحوّلاته وظلاله وتخومه، وإذا كان الحكي أيضاً في منظوره السرديّ العام يخضع لنظرات متعدّدة ومفاهيم مختلفة - قد لا يمكن حصرها بسهولة في مسار واحد، وتقييدها برؤية واحدة وفضاء واحد وأسلوب واحد-، فلا بدّ والحال هذه من الاقتصار على حال محدّدة منه تكون موطن البحث والتحليل والرصد والتأويل والدرس، كي تنتهي المحاولة إلى نتائج واضحة بوسعها أن تقول وتحدّد وتقوّم وتستنتج وترى.
عرف السردُ أولاً - على المستوى الفنيّ- فنّ “القصّة” الذي كان رديفاً للسرد بلا تقسيمات قصصيّة ولدتْ فيما بعد، مثل القصّة القصيرة والقصّة الطويلة والقصّة القصيرة جداً وغيرها، ومن ثّم الرواية القصيرة والرواية ورواية الأجيال، وما إلى ذلك من التقسيمات النوعيّة لفنون السرد المتداولة، لكنّ الأصل السرديّ يبقى في حدود فنّ القصّة، ونموذجها النوعيّ الأشهر “القصّة القصيرة” وقد صارتْ مَعلَماً أساساً وجوهرياً من معالم الحكي حين يتحوّل إلى فنّ نوعيّ بالغ الخصوصيّة، مع أنّ فنّ الرواية تفوّق إجرائياً على فنون السرد الأخرى واعتلى منصّتها بفعل عوامل وأسباب كثيرة معروفة.
يعدّ فنّ القصة القصيرة وفنّ الرواية الفنّين الأشهَرَين في فضاء المحكي السرديّ الفنيّ المعروف والمتداول في عالمنا الأدبيّ المعاصر، وإذا كان فنّ القصّة القصيرة هو الأقدم في مسيرة ولادة الحكي الفنيّ فإنّ الرواية الآن هي الأشهر والأكثر تداولاً، حتّى ليمكن القول إنّ فنّ القصة القصيرة قد انحسر إلى درجة كبيرة على الرغم من أنّه الفنّ السرديّ الأشدّ إبهاراً وهندسةً وصنعةً وشعريّةً وطرافةً وخصوصيّةً، وترك الساحة الأكبر لفنّ الرواية الذي صار “ديوان العصر” شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وقد طغى هذا الطغيان الهائل والتَهمَ ميادين مجتمع القراءة التهاماً عنيفاً مدفوعاً بعوامل وأسباب كثيرة تحدّث عنها كثير من الباحثين والنقّاد، وما زال لحديثهم في هذا الشأن صلة أو صلات لا تنتهي بسهولة.
صار فنّ القصة القصيرة فناً مهملاً ومهمّشاً على نحو من الأنحاء، ولم يعد يُعنى به إلا من ابتُليَ بعشقٍ لا يزول وإيمانٍ لا يبور غارقاً في لجّته ومبتهجاً بلوعته وتفاصيله الفريدة، بحيث ظلّ على عهده مع عالم القصة القصيرة يجوّد في خصوصياته التعبيريّة والتشكيليّة ما وسعه ذلك، وثمّة من قرّر اقتراف المشيَتَين بلا تردّد فصار يكتب الرواية بجانب كتابته للقصّة القصيرة على أن تبقى القصّة القصيرة هي المشية الأصل والرواية هي المشية الظلّ، بعد أن أصبح الابتعاد عن فنّ الرواية للقاص شبه مستحيل إلا ما ندر تحت ضغط النجوميّة التي تتمتّع بها صفة «الروائيّ» على حساب صفة «القاص»، وما تدرّه الرواية من مكاسب ماديّة ومعنويّة لا تُقارَن بمحصول القصّة وهو لا يكاد يُذكَر.
تمثّل خصوصيّة اللغة السرديّة في أنواع السرود كافّة أبرز خصيصة إبداعيّة يستحيل على أديب حقيقيّ تحقيق شيء مهمّ من دونها، فضلاً عن الصنعة القصصيّة التي تحتاج إلى معالجة مخلصة تقع على نوع الحساسيّة السرديّة التي يتمتّع بها، وباشتباك اللغة والصنعة على النحو المناسب في مختلف أنواع السرديات يبرز الصوت الخاصّ، وهو يتجوّل في طبقات التراث والتراث الشعبيّ والتاريخ والجغرافيا والذاكرة والحلم والمرجع والغربة والمتخيّل والرؤيويّ، بكلّ ما يختزنه ذلك من إشراق وتجلّ وألم وأمل وبسالة وتدفّق وحكمة واستشراف وجرأة وحيويّة، تحتضنها طاقة خلاقة على مستويات التعبير والتشكيل والتصوير تؤدي وظائفها المركزيّة بحِرفيّة ونجاح وكفاءة بين الموضوع والأداة.
يختلف فنّ القصّة القصيرة اختلافاً جذرياً عن فنّ الرواية، على الرغم من أنّ كثيرين يعتقدون أنّهما يشتغلان على منضدة سرديّة واحدة، غير أنّ فنّ القصّة شديد الدقّة والفنيّة والجماليّة ولا ينجح فيه إلا سارد مبدع وأصيل يدرك جوهر هذا الفنّ، ويؤمن به ويخلص له ويتخصّص به - كتابةً واحتفاءً-.