الكتابة كحقل ألغام!

منصة 2021/04/13
...

 ميادة سفر
 
لم تكن الكتابة يوماً، وبشكلٍ عام، ترفاً فكرياً يمارسه كل من تمكن من إمساك قلم وورقة، أو جهاز كمبيوتر، أو بضعة كتب مركونة في إحدى زوايا البيت!.. 
الكتابة مسؤوليَّة تثقل كاهل من يقدم عليها ويخوض غمارها، فهي كمن يسير في حقل ألغام، عليه توخي الحذر أين وكيف يخطو خطواته، وكيف يخطّ كلماته وينسق جمله ويختار موضوعاته. 
في الكتابة الإبداعيَّة تتنوع المجالات وتتعدد من الرواية، القصة، الشعر، المقال الصحفي، وغيرها كثير، ولو أردنا إحصاء أعداد كتابها لكانت بالآلاف وأكثر، ولكل مجال شؤونه وشجونه ومخاطره وأساليبه التي تختلف من كاتبٍ إلى آخر، ومن بلد إلى آخر وفقاً لمنسوب الحرية المتاحة أمامه، والتابوهات التي تعرقل مسيرته وتعوقها وتكبل حركة يديه، هذا بشكل عام، أما وبتخصيص محدد وما أود الحديث عنه هنا هو ذلك الشكل من أشكال الكتابة التي تندرج تحت مسمى “الكتابة الساخرة” أو الكوميديا 
السوداء. 
في الكتابة الساخرة أياً تكن أدباً أم مقالاً صحفياً أو سواهما، لا يمدح الكاتب النواحي الإيجابية والجميلة في الواقع، بل يعري القبح الموجود، ويضعه أمام الأعين حيث يجب أنْ يُرى وتسلط عليه الأضواء، ويظهر الحقيقة عارية بلا تجميل ولا ستائر ولا مواربات. 
ربما كانت السخرية كأحد أشكال الكتابة نوعاً من التمرد على ما يحيط بنا من أمور لا نرغب بها ونرجو تغييرها وتحسينها، وهي من ناحية أخرى شكل من أشكال النقد غير المباشر للمشاكل التي تعتري حياتنا في كل جوانبها، الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية والثقافية، يقدمها الكاتب بقالب ساخر مضحك لكنه موجع في الوقت ذاته، لذا يتلقاه القارئ بشغف ورغبة كبيرة، وتجد لديه صدى أكبر بكثير من القوالب الجامدة للمقالات التي تشيد وتمجد 
وتحتفي. 
لكن مرة أخرى.. لو أحصينا من يكتب في هذا المجال في البلاد العربية لما تجاوزا العشرات بأقصى تقدير!.. لماذا؟.. سؤال يطرح ونحن نفتقد هذا الجانب الإبداعي وضرورته في واقعنا المليء بالنواحي التي يمكن الإشارة إليها، والسخرية منها، وتسليط الضوء عليها.. فأين هي الزوايا الساخرة في جرائدنا 
ومجلاتنا؟.. 
أين هي الصحف التي كانت تخصص بكامل صفحاتها للكتابة الساخرة؟.. أين الكتاب الذين تميزوا وعرفوا واشتهروا بهذا النوع من الكتابة في ظل ما يجري في البلاد العربية من أحداث تثير السخرية والوجع؟!. 
كم من كتاب الزوايا الصحفية اليوم يبيعون أنفسهم الوهم، معتقدين أنّهم يكتبون كتابة ساخرة، وما هي إلا نصوص مبتذلة، نصوص أقرب إلى التهريج منها إلى إلقاء الضوء على الجوانب الموجعة بأسلوب وإنْ كان ساخراً إلا أنه يحاكي الحقيقة، ويريد بها حلولاً، بعيداً عن التجريح 
والتهكم. 
غابت الكتابة الساخرة أو تكاد، مع غياب كتاب كبار كمحمد الماغوط، وتنحي من بقي لأسبابه الخاصة ربما، والمؤكد أن هذا التنحي بسبب من مساحات الحرية الضيقة أمامهم، والتي لم تعد كافية لقول ما يجب أن يقال، وانتقاد من يجب أن ينتقد، لطالما كانت الكتابة في هذا الجانب أحد منغصات الأنظمة الحاكمة، ولطالما أرعبتها الصحف والزوايا المكتوبة بتلك اللغة، فسارعت إلى سحب الأعداد من الأسواق، أو إيقافها بأوامر عليا!.. والأمثلة على ذلك كثيرة في بلاد ترهبها الكلمات، ويخيفها النقد، ولا مانع فيها من التآخي مع الفساد والفاسدين والمفسدين، طالما بقيت العروش من تحتهم 
ثابتة. 
ربما يطول غياب الكتابة الساخرة طوعاً أو قسراً، إلى أنْ تنعم هذي البلاد بحيز أكبر من الحرية، وبأقلام أنضج وأكثر حساً بالمسؤولية، وقدرة على تقديم مضمون جدي بقالب ساخر، بعيداً عن التهريج والتجريح والتسخيف.. 
إلى ذلك الوقت لا سبيل أمامنا إلا تناول كتبٍ من على رفوف مكتباتنا، لنقرأ واقعاً تنبأ به واستشرفه بسخرية مرّة، ومنذ سنوات ليست ببعيدة، كتّاب نفتقد حضورهم
اليوم!.