حسن العاني
يوم كان أجدادنا الأوائل قبل آلاف السنين، يمضون شتاءهم البارد في المغارات والكهوف، وينامون صيفاً على غصون الأشجار، لم تكن بهم حاجة الى أي نوع من أنواع التدوين والتاريخ والحساب، إلا أنَّ الأمر لم يعد كذلك بعد عشرين ألف سنة مثلاً أو ثلاثين، وعلى وجه التحديد عندما انتقلت البشرية الى مرحلة الاستقرار وبناء البيت والزراعة، لأنَّ هذه المرحلة ارتبطت الى حدٍّ ما بولادة علاقات تجارية واقتصادية ومعاملات يومية، ناهيك عن نشوء أعراف سياسية واجتماعية على بساطتها، خاصة مع البدايات المبكرة لتأسيس الدول والحكومات.
وإذنْ باتت الإنسانية تولي اهتماماً واضحاً للكثير من المعارف وإنْ كانت متواضعة، وربما كان في المقدمة منها، الإلمام بأحداثها ووقائعها التي تقتضي تثبيت تواريخ واضحة ومحددة لها، ومن هنا فقد لجأت في بداية الأمر الى الأحداث الأبرز في محيطها وسيلة الى تدوين تواريخها، من ذلك إنَّ القضية (س) مثلاً (وقعت) قبل الطوفان أو بعده، والحادثة (ص) قبل الدمار الذي تعرض له سد مأرب أو بعده، وهكذا كان مصطلح (قبل وبعد) هو المعيار الوحيد لمفهوم التاريخ، ولم تكن الأحداث الكبيرة التي تركن الناس إليها، محدودة أو نادرة، فهناك الفيضانات والبراكين والهزات الأرضيَّة والحروب والعمائر العظيمة والأبراج والاهرامات وموت ملك أو زواج ملكة... الخ، ولم يكن العرب بمنأى عن هذا الأسلوب العالمي، فحرب البسوس مثلاً وعام الفيل والبعثة النبويَّة الشريفة والهجرة وفتح مكة، وغيرها كثير، ومما يلاحظ بأنَّ البشرية قبل اختراعها الكتابة والتدوين والسنين والشهور وتفاصيل الزمن، كانت تقول على سبيل المثال (حدث كذا قبل انفجار البركان الفلاني) من دون أنْ تذكر لنا (عدد السنوات) أو الفاصلة الزمنية التي حدث فيها كذا قبل الانفجار، ولم يظهر الاهتمام بالعدد أو مدة الفاصلة الزمنية إلا بعد التطورات الهائلة وقيام الامبراطوريات والدول..
نجانب الحقيقة إذا تصورنا بأنَّ التقدم الحضاري المذهل الذي شهده العالم قد ألغى نهائياً مصطلح (قبل وبعد)، وعلى الرغم من كوننا أصبحنا نمتلك أنواع الساعات اليدويَّة والجداريَّة والموبايلات وسجلات النفوس والوثائق، ونعرف أدق تفاصيل الزمن، ونتظاهر في الشوارع تأييداً للحكومة إذا أعطتنا عطلة لمدة ثلاثة أيام أو أربعة، فالناس في العراق – حالها حال الناس في بلدان العالم الأخرى – كانت وما زالت الى حدٍ كبيرٍ خاصة في القرى والأرياف، تعتمد هذه الصيغة فتقول (قبل دكة رشيد عالي) أو بعدها، وبالمقياس نفسه يدور كلامها وطريقة تعاملها مع التاريخ، ففلان مثلاً هاجر الى الخارج قبل تتويج فيصل الثاني بشهر أو سنة أو أكثر...الخ، أو بعد تتويجه بكذا شهر أو سنة، وهكذا بالنسبة لانقلاب 14 تموز أو سقوط الصنم في ساحة الفردوس أو ثورة العشرين أو الانتصار على داعش، وغني عن القول بأنَّ (الأحداث المهمة جداً) في حياة الشعوب، هي وحدها التي تصلح لكي تؤرخ الناس ما قبلها وما بعدها، من ذلك: تزوج فلان قبل تشكيل الحكومة بشهرين وأنجب ولداً بعد تشكيلها بشهرين!!