معماريون مصريون يعيدون بناء جامع النوري

منصة 2021/04/17
...

  باريس: أ ف ب
فاز ثمانية مهندسين معماريين مصريين بمسابقة دولية لإعادة بناء مجمع جامع النوري التاريخي في الموصل بالعراق كما أعلنت اليونسكو منظمة المسابقة.
واختير المهندسون المعماريون المصريون الثمانية وتصميمهم «كورتياردز ديالوغ» (ويعني بالعربية حوار الأفنية) من بين 123 تصميما شاركوا في مسابقة للفوز بالمشروع.
لحقت أضرار جسيمة بالمجمع خلال معارك استعادة مدينة الموصل عام 2017 وتشكل إعادة إعمار المسجد جزءا من مشروع المنظمة لإحياء المدينة القديمة.
 
وقالت المديرة العامة لليونسكو أودري أزولاي: إنَّ «إعادة إعمار مجمع جامع النوري، وهو أحد المعالم التاريخيّة المُتأصّلة في نسيج مدينة الموصل وتاريخها، ستترك بصمة بارزة ضمن الجهود المبذولة للدفع بعجلة تحقيق المصالحة والتلاحم الاجتماعي في المدينة التي مزقت الحرب أوصالها».
وأضافت «تُحفّز مواقع التراث والمعالم التاريخية شعور الناس بالانتماء وبالمجتمع وبالهوية، وتضطلع بدور أساسي في إحياء روح الموصل خصوصاً والعراق عموماً» كما ورد على موقع اليونسكو.
 
تغييرات ملحوظة
وقالت اليونسكو إنه «بينما ستبدو قاعة الصلاة كما كانت قبل التدمير، ستكون هناك تغييرات ملحوظة، بما في ذلك استخدام الضوء الطبيعي والمساحات الموسعة للنساء وكبار الشخصيات».
المشروع الذي يفترض أنْ يبدأ في أواخر الخريف يهدف الى «إعادة بناء قاعة الصلاة التاريخية في جامع النوري وتحقيق الانسجام بين أركان المجمع وهو أكبر مكان عام في مدينة الموصل القديمة، ومحيطه الحضري، وذلك من خلال استحداث أماكن عامة مفتوحة ذات خمسة مداخل تربطها بالشوارع المحيطة بها» بحسب اليونسكو.
أطلقت المنظمة المسابقة في تشرين الثاني 2020 بالتنسيق مع وزارة الثقافة العراقية وديوان الوقف السني العراقي بدعم من الإمارات العربية المتحدة.
وهي ضمن مشروع اليونسكو «إحياء روح الموصل» الهادف الى إعادة إحياء المدينة القديمة وحياتها الثقافية وتعزيز نظامها التعليمي.
 
إحياء النفوس
ولدى الإعلان عن الفائزين في التصميم أصدر الفريق الفائز بيانًا يرحب بنتائج المسابقة قائلاً: «عمل فريقنا بشغفٍ كبيرٍ لتقديم مشروع يتناول بشكلٍ أساسي الحاجة إلى التماسك الاجتماعي وإحياء النفوس. نحن نتطلع إلى استكمال التصميم والمساعدة في إحياء مدينة الموصل القديمة».
وسيحصل صلاح الدين سمير هريدي وفريقه عن التصميم الفائز جائزة قدرها 50 ألف دولار وسيتم منحه عقد التصميم التفصيلي للمجمع، كما سيتم منح الفائزين بالمركز الثاني جوائز تقديراً لعملهم، وسيتم منح 30 ألف دولار لفريق من الهند، تليها 20 ألف دولار للمشاركة من إسبانيا، و15 ألف دولار لفريق في الولايات المتحدة ، و10 آلاف دولار لفريق من المهندسين المعماريين من الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة وفرنسا وتركيا ولبنان.
 
 
عمرها 800 عام
في 21 حزيران من العام 2017، في الساعة التاسعة وخمسين دقيقة مساء، دُمّر جامع النوري الكبير من قبل عصابات داعش الإرهابيَّة، وحدث الأمر في أقل من طرفة عين مقارنة بتاريخه الممتد لأكثر من 800 عام، في ضربة موجعة أضيفت إلى التخريب الذي لحق بمدينة الموصل المنكوبة.
وكانت القوات العراقيَّة حينها تتقدم في طريقها للسيطرة على المسجد، ولو نجحت كان الانتصار سيعدُّ تاريخياً. وبحسب الأخبار الواردة حينها، فإنَّ القوات العراقية كانت على مسافة 50 متراً فقط من سور المسجد عندما دوّت تفجيرات من داخله.
وبثت القنوات الإخبارية في جميع أنحاء العالم صوراً التقطتها الأقمار الصناعية للأنقاض التي غطت المساحة التي كان يحتلها المسجد الشهير. وقال رئيس الوزراء العراقي حينها، حيدر العبادي: «تفجير داعش لمنارة الحدباء وجامع النوري هو إعلان رسمي لهزيمتهم». لقد هُزم التنظيم، لكن لم يبق من المسجد العظيم سوى حطام.
وطُردت عصابات داعش الإرهابيَّة من المدينة في شهر تموز عام 2017، لتنتهي بذلك فترة من القتال الشرس والاشتباكات العنيفة بين القوات العراقية والتكفيريين عرفت باسم «معركة الموصل». وبدأت المدينة مسيرتها الطويلة الصعبة على درب التعافي محاولة استعادة روحها.
وظل جامع النوري عبارة عن أنقاض وركام حتى كانون الأول من العام 2019، عندما أُطلقت حملة لإعادة بناء مجمّع جامع النوري ومئذنته الحدباء، في مشروع بقيمة 50.44 مليون دولار تموله الإمارات العربية المتحدة، وهو يشكل جزءاً من مبادرة أشمل باسم «إحياء روح الموصل» أطلقتها اليونسكو في شباط عام 2018 بالتعاون مع الحكومة العراقية بهدف استعادة النسيج الحضري والاجتماعي والثقافي للمدينة القديمة، إذ تقف الكنائس الأثريَّة إلى جانب المساجد والمدارس القديمة والأبنية العثمانية والخانات.
أما جامع النوري الكبير فكان بمثابة القلب الروحي للمدينة القديمة، ويحتل مجمع الجامع مساحة تبلغ تقريباً 11,050 متراً مربعاً، وهو يضم إلى جانب المسجد المخصص للصلاة عدداً من الأبنية من بينها المدرسة النورية.
ويتميز هذا المسجد بمنارته الحدباء المزينة بزخارف من الطوب الأحمر، وهي مطلة على جميع أرجاء المدينة. وكانت المنارة عند بنائها مستقيمة، إلا أنها مع مرور الزمن، اتخذت ميلاناً طبيعياً نحو الشرق ما أكسبها اسم الحدباء، وهي الجزء الوحيد الذي كان باقياً من البناء الأصلي للجامع، الذي أعيد بناؤه عدة مرات خلال تاريخه الطويل.
ولم تكتف المنارة بمنح اسمها للموصل، التي صارت تعرف أيضاً بالحدباء، بل وطبعت صورتها أيضاً على العملة الورقية العراقية من فئة 10,000 دينار إلى جانب صورة الحسن بن الهيثم، عالم الرياضيات الشهير الذي ولد في البصرة في القرن الحادي عشر الميلادي، ويعدُّ من أهم علماء العصر الذهبي للإسلام والممتد ما بين القرنين الثامن والثالث عشر، والذي تميز بازدهار الأدب والعلوم والطب وعلم الفلك، وكان العراق خلاله مركزاً فكرياً وثقافياً للعالم.
 
«إحياء روح الموصل»
ويعدُّ باولو فونتاني، الذي تولى منصب ممثل منظمة اليونسكو في العراق عام 2019، أحد الذين يقودون مبادرة «إحياء روح الموصل». يقول فونتاني: «أذكر حين طُلب مني تولي هذا المنصب، كيف فكرت حينها كم سأكون ممتناً لو جاء أحدهم وعرض عليّ مساعدته في إعادة بناء مسقط رأسي. كل تلك المعالم الأثرية والأماكن التي وسمت وجودي، وصنعت ما أنا عليه اليوم. كوّنت هويتي».
لكنَّ ترميم جامع النوري الكبير، ومعه جزءٌ من هوية الموصل، يشكل تحديات أكبر بكثير مما تحمله أي عملية ترميم عادية، إذ يتعين على فونتاني وفريقه التعامل مع مبنى يبلغ عمره نحو 850 عاماً، وعلاوة على ذلك وسط منطقة شهدت معارك واشتباكات عنيفة.
ولكي يصبح البدء في إعادة الإعمار ممكناً، من الضروري أولاً تقييم الأضرار. في العادة، يفحص خبراء الترميم المبنى، ويحددون ما يتوجب إصلاحه، لكنْ في حالة الجامع النوري برزت مشكلة كبيرة: كان الدخول إلى الموقع شديد الخطورة على حياة أي شخص. لذلك نفذت طائرات من دون طيار المهمة بدلاً من البشر.
وتوضح ماريا ريتا أشتوزو، كبيرة موظفي اليونسكو في مشروع ترميم جامع النوري، أنَّ الطائرات من دون طيار أجرت مسحاً دقيقاً للأسطح الأفقيَّة مثل أسطح المباني، وتلك العموديَّة مثل المئذنة. كما التقطت عدة صور مع تحديد مرجعيتها الجغرافيَّة، ثم جرى تجميعها معاً لتكوين نموذج ثلاثي الأبعاد.
وقد سمح ذلك بالقيام بما يشبه التحليق فوق موقع حطام المجمع لرسم خريطة مفصلة لكافة الأسقف المهدمة، وتصوير المئذنة التي يبلغ ارتفاعها 45 متراً بدقة عالية وبكل سهولة.
بعد ذلك جاءت مرحلة تنظيف موقع الجامع المهدم، أي التعامل معه كما يجري التعامل مع حقل ألغام. فبين الركام كان هناك الكثير من الألغام الكبيرة المزروعة والعبوات الناسفة غير المنفجرة. تقول أشتوزو: «نحو 300 أو 400 من العبوات التي تحوي مادة تي إن تي كانت مدفونة هناك، بل عثرنا على عبوات ناسفة مخبأة في الجدران».
 
تحدٍ كبير
وجرى تأمين الموقع بإشراف السلطات العراقيَّة، التي قامت بتفكيك كل من العبوات الناسفة على حدة، الأمر الذي شكل التحدي الأكبر برأي أشتوزو، التي تقول: «إن عملية إعادة بناء المعالم التاريخيَّة، تنطوي دائماً على تحدٍ كبيرٍ، أما إزالة الألغام فقد شكلت مخاطر إضافيَّة غير مسبوقة».
وبالتعاون مع وزارة الثقافة العراقية ومجلس الدولة للآثار والتراث، تمكن فريق مكون من ثمانية علماء آثار من أن ينتشلوا من بين الأنقاض أعمالاً فنيَّة وقطعاً من المبنى نجت بأعجوبة من الانفجار. وبالمجمل أنقذ من بين ركام المسجد ومنارته 44,000 قطعة قرميد و1.100 قطعة من الرخام المكسر، وجرت فهرستها جميعهاً، وسوف تزين المسجد من جديد عند انتهاء عملية إعادة بنائه.
واحتاج التوصل لاتخاذ قرار بخصوص المئذنة إلى وقت طويل من النقاش، وكان السؤال هل سيعاد بناؤها كما كانت عند تشييدها قبل 850 عاماً، أم بالميلان الذي كانت عليه عند تدميرها والذي أكسبها اسم الحدباء. وكان القرار أنْ تحافظ المنارة على انحنائها، إلا أنَّ مهمة إعادة بناء قاعدة المنارة فعلياً أصعب بكثير من اتخاذ قرار بشأن شكلها وزاوية ميلها.
شكلت المنارة المصدر الأكبر للقلق في عملية إعادة البناء، لأنها العنصر الأضعف في المبنى بأكمله. وعندما هدم المسجد تسبب الانفجار بانهيار جزئي في القاعدة العلوية للجانب الشرقي من المنارة، ما تسبب في دوران الهيكل حول محوره بشكل كبير عند سقوطه.
وتمثلت نقطة البداية في عملية إنقاذ هذا المعلم في تقييم الوضع الحالي لما تبقى من المبنى ومدى ثباته، وتحديد ما الذي يمكن الحفاظ عليه، وما الذي فقد منه.
وتبدأ عملية التقييم بالحصول على عينات من المواد التي استخدمت في البناء وفحصها بالمنظار، ويتم ذلك بحفر ثقوب صغيرة، وفحصها بكاميرات خاصة.
وتسمح هذه التقنية بالحصول على معلومات دقيقة تشمل التركيب الكيميائي والفيزيائي للمواد الأصلية المستخدمة في البناء ونوعية الملاط الذي استخدم لتدعيم قطع الطوب، وكذلك خطوات سيرعمليات البناء، سواء التي اتبعت عند تشييد المسجد لأول مرة في القرن الثاني عشر، أو خلال عمليات الترميم والتجديد التي خضع لها لاحقاً خلال عمره الطويل، وهذا، كما تقول أشتوزو، سيسمح لهم بإعادة بناء المسجد أقرب ما يكون إلى شكله الأصلي.
وكانت هذه العملية طويلة وشاقة، كما أدى تفشي فيروس كورونا إلى تأخير العمل خلال معظم عام 2020، ولن تكتمل إعادة البناء إلا عام 2023.
 
عملية هائلة
ومع ذلك، فإنَّ إعادة بناء مدينة الموصل نفسها عملية هائلة، ولن تنتهي عند حدود ما تقوم به اليونسكو. ففي المدينة القديمة وحدها يوجد أكثر من 5000 مبنى متضرر، في حين أن إصلاح ما تضرر في كامل المدينة وفقاً لتقديرات الحكومة العراقية العائدة إلى عام 2018، يحتاج إلى مساعدات بقيمة ملياري دولارعلى الأقل لتتمكن المدينة من التعافي.
ويقول المطران نجيب ميخائيل، رئيس أساقفة الكلدان في الموصل: «عادت عائلات كثيرة إلى الموصل لتجد منازلها ومساجدها وكنائسها ومكتباتها ومتاحفها كلها مدمرة. ولهذا نعمل يداً بيد، وكتفاً بكتف لتنظيف الموصل وإعادة بنائها. ليس فقط إعادة بناء الحجر، ولكن الروح أيضاً».
وكان المطران نجيب قد أنقذ كنوزاً ثقافية كانت على وشك الوقوع في أيدي عصابات داعش الإرهابيَّة، كما أشرف على ترميم كنيسته، كنيسة مار بولس الواقعة في الجانب الشرقي من الموصل حيث لا تزال الأضرار الناجمة عن الحرب واضحة.
ويقول المطران نجيب: «لقد اكتشفوا فن الكتابة والقراءة هنا، هذه هي حياتنا. هنا أصل البشرية، وهذه ثقافتنا».