شهر التقوى في الهدي النبوي

منصة 2021/04/17
...

  بيداء مهدي
 
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة/183.
إن الله تعالى في هذه الاية يتحدث عن الغاية من فرض الصيام، مذكرا في نهايتها بأنها رجاء للحصول على التقوى. وذلك ان شهر رمضان فرصة أتاحها الخالق عز وجل لكي يمارس الإنسان فيها توجيه نفسه واصلاحها والتزود من مائدة الكرم والرحمة والبركة الإلهية ليصلح ما فسد منه ويتداركه، ومن عجيب التشريع والحكمة الإلهية ان مأدبة الله في الشهر الشريف ليست طعاماً ولا شراباً ماديين، وانما هي لذائذ معنوية أهم وأكثر دواما من الطعام والشراب. فعن الرسول (ص): “اجيعوا أكبادكم واعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى الله عز وجل”.  
وتتحقق هذه الفرصة في جهاد النفس خلال هذا الشهر بعدة أمور. فشهر رمضان هو شهر ترويض العادات والسلوك،  فيقول الرسول (ص) في حديث مضمونه: (ليكن الصوم واعظاً للناس في العاجل ورائضاً لهم على أداء ما كلفهم ودليلاً في الاجل). ومن هنا تصبح لدى المؤمن ملكة العبادة. ويمكن اعتبار شهر رمضان بمثابة محطة عبادية عامة إذ إن الإنسان خارج هذا الشهر ربما يجتهد في تهذيب نفسه وحيدا، لكنه يرى نفسخ محاطا بجمع كبير من الناس على طريق الهدى خلال الشهر الشريف، برعاية العون الإلهي لتقوية ملكات الخير وما فيها من تسكين للشهوات. فالهدي النبوي الشريف يلمح الى الانكسار عن الشهوات، إن الإنسان يحتاج في عملية جهاد نفسه الى أن يقوى عليها مع استعدادها للخضوع، فبالصوم تضعف قوى الجسد وتسكن الشهوات فيسهل العمل للتحرر من وساوس الشيطان. فان مما يعيق الإنسان في عملية اصلاح نفسه هو اعانة الشيطان لهوى النفس وغوايته لها. فإن الخالق؛ جلت قدرته؛ من كرمه أن يمنع هذا اللعين وجنوده في هذا الشهر. ففي خطبة النبي  (ص) مستقبلا رمضان، يقول: “الشياطين مغلولة فأسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم”. وينبغي التدرب على الصبر  لأنه أساس ثبات الإنسان ومن لا صبر له لا يمكن أن يكون ثابتاً، وشهر رمضان يعودنا الصبر وينمي هذه الملكة فينا من خلال ممارسته عملياً بتحمل الجوع والعطش والكف عن الملذات الأخرى. ولذا ورد في القران الكريم:  ﴿اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة/153. فعن الرسول الاكرم (ص)  تفسير الصبر بالصيام. واخيرا هناك عمل التخلص من أوزار الذنوب: فمما يعيق سعي الإنسان في جهاد النفس هو آثار الذنوب وتبعاتها التي تعرقل خطى تكامله وتثقلها، ورمضان هو وسيلة الخلاص من تبعات هذه الذنوب، فيقول النبي (ص): “قد اقبل اليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة”. ولذا فان عدم الاستفادة من فرصة شهر رمضان لتحصيل غفران الذنوب هي الخسارة وأي خسارة، إذ يقول (ص): “من لم يغفر له في شهر رمضان لم يغفر له الى مثله من قابل إلا أن يشهد عرفة”، وله أيضا: “الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر”. أنّ الصوم ليس تكليفا، بل هو تشريفٌ يوجب شكراً بحسبه، والمنّة لله تعالى في إيجابه علينا، ونعلم مكانة نداء الباري لنا في آية الصوم، ونشعر بالسعادة من النِّداء خصوصاً إذا علمنا أنَّه نداء ودعوة خاصة بنا لدار الوصول. روِيَ أَنَّ عِيسَى (ع) نَادَى أُمَّهُ مَرْيَمَ بَعْدَ وَفَاتِهَا. فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ كَلِّمِينِي، هَلْ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى الدُّنْيَا؟
قَالَتْ: نَعَمْ، لِأُصَلِّيَ لِلَّهِ فِي لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْد، وَأَصُومَ يَوْماً شَدِيدَ الْحَرِّ يَا بُنَيَّ، فَإِنَّ الطَّرِيقَ مَخُوفٌ.