خزانة النسيان: ثراء المفردة وتنوّع الأفكار

ثقافة 2019/02/10
...

هدية حسين
 
 
إذا كنا ننشد النسيان في العديد من محطات الحياة، فلماذا نصنع له خزانة ونكدس ثيابه فيها؟، هل ثمة هاجس مجهول سيحيي تلك التفاصيل التي رميناها وراءنا كيما نعيد النظر لاحقاً بقرارات كنا اتخذناها، ومواقف لم نحسن التصرّف فيها؟، هذه التساؤلات قادني إليها عنوان المجموعة الأولى للشاعر باقر صاحب والتي سبقتها ثلاث مجموعات شعرية، فالخزانة هي المكان الذي نخزن فيه الأشياء، وهي أقرب للذكريات منها للنسيان، كل شيء نخزنه ستكون له ذكرى تتعلق بحدث ما، وكلما مر الوقت صار للأشياء ذكريات أعمق، لكن هكذا أراد باقر صاحب فصنع لنا خزانة للنسيان، وها نحن نفتحها، ونتجول في رفوفها لعلنا نعثر على روشتة تقودنا لنسيان ما يمكن نسيانه.
يقسم باقر صاحب مجموعته التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الى قسمين، الأول خصصه للقصص القصيرة، ويبدأ من الصفحة 9 وحتى الصفحة 98 باثنتي عشرة قصة، والثاني للقصص القصيرة جداً، من الصفحة 81 وحتى نهاية الكتاب بثماني عشرة قصة.
لا يمكن الفكاك من الكابوس، فهذا الرجل في قصة "برزخ من كوابيس" وهي من القسم الأول في المجموعة، يعاني منذ صغره من كابوس فيلجأ الى حضن أمه، لكن الكابوس يراوده ويرافقه حتى في مراهقته، وحينما أصبح كاتباً في مرحلة شبابه طوّع الكوابيس وحولها الى كلمات، ونصحه الطبيب النفسي أن يتزوّج، وكذلك فعل أحد أصدقائه، فمن شأن ذلك أن يضفي على حياته شيئاً جديداً خصوصاً إذا ما أثمر الزواج عن ولادة طفل وبذلك سيختفي الكابوس من حياته، وحينما تحولت النصيحة الى فعل صار للكابوس شكل آخر، يقول في نهاية القصة على الصفحة 13(حينما نمت في تلك الليلة الظلماء، وطأني كابوس آخر، استيقظت منه بهبوطي على أرضية الغرفة بقوة، فقد رأيت نفسي تمشي على صراط مستقيم شاهق العلو فوق بحر عكر لا متناه.. مع آلام الهبوط التي عانيتها في اليوم التالي قلت، فسد الكابوس القديم، الهبوط المزمن من السرير الى الأرض، وعليّ إفساد كابوس جديد ليس له حدود)!
 
متواليات قصصية
تحت عنوان مغافلة ص71 و72.، سنقرأ خمس قصص قصيرة جداً، بعناوين: سياف طائر، حياة يومية، ضياع، شوق، لا لقاء... وكذلك "قصص تمشي على قدمين" التي تضمنت أربع قصص تحت عناوين، تقاطع، علامات، دوامة، صراط دائري، على الصفحات 73 و 74 و75 و76.. وأيضاً قصة بانوراما الوداع التي احتوت على أربع قصص هي، سواقي دموع، نعيق، عيد الميلاد في مقبرة، يوم شاق، على الصفحتين 77 و 78.. هذه  القصص وإن كانت متواليات، أرى مكانها في الجزء الثاني من الكتاب ضمن قصص قصيرة جداً.
الجزء الثاني يبدأ بقصة أعظم القصص، يأخذنا باقر صاحب الى العالم السفلي، بطلها رجل يُقتل بانفجار وفي ليلته الأولى تزوره أرواح الساكنين في القبور، فإذا بأصحابها كلّهم قتلوا بانفجارات متعددة، كل واحد منهم يحكي له قصته لتخف عليه وحشة القبر في ليلته الأولى، وفي الليلة التالية ينضم إلى تلك الأرواح، ليلقوا السلام على ساكن جديد قضى بانفجار فيقصون عليه حكاياتهم، لنستخلص من القصة أنّهم شهداء أحياء لم ولن يموتوا.
في قصة شارع أخضر، وهي من القصص القصيرة جداً، يفعل الحلم فعله ويغير سلوك الناس، فبطلها يسير كل يوم في هذا الشارع بين بيته ومكان عمله، ويحلم أن يراه مزداناً بالخضرة والورود وأصوات الطيور، لكن هذا الشارع في الحقيقة مصاب بالكسور الكونكريتية، والأزبال فيه متراكمة تزكم الأنوف، وقد ظن الناس أن هذا الرجل هو الذي يرمي الأزبال وينغص عليهم حياتهم، وبمجرد أن قال بأنّه البريء الوحيد بينهم بدلالة شريط حلمه وهو يسير في الشارع الأخضر، كفوا عن رمي الأزبال، وصاروا يذهبون كل يوم للنوم مبكرين، لعلهم يحظون برؤية الشارع الأخضر.
وفي قصة الصالح العام، حيث بطلها رجل كهل وكانت الشيخوخة في طريقها إليه، جمع باقر صاحب عدة أفكار بسطور قليلة، حيث جمع المجانين، والكهول، واللصوص، والشرطة، ونشطاء المدينة، والسياسيين الفاسدين، ليهربوا من المدينة ولم يبق إلّا الرجل الكهل ليعلن نفسه حاكماً، وأول مرسوم أصدره هو إعدام الشيخوخة.
خزانة النسيان تفتح أمامنا دروباً ومسالك لحياة نعيشها بكل عقدها، ونحلم بحياة أخرى لعلها تتحقق ولو من خلال الأحلام التي لا نريد لها أن تُنسى.