الأفكار و الرواية

ثقافة 2019/02/10
...

ياسين النصير
 
 
حقلان مهمّان على الروائي أن يتعرّف على تقنياتهما: الأفكار، والرواية. مهمة الأفكار تسبق مهمة الرواية، فقد يشحن المؤلف بالفكرة، حتى تتمكن منه، عندئذ يبحث عن الشكل الملائم ليستوعبها، هذه مهمة الروائيين الكبار الذين يجدون في أشكال الحياة اليومية عشرات الأفكار، إلا أن فكرة واحدة من بين كل الأفكار هي التي تشكل الأساس في مجمل تفكيره. إن مهمة تبني الفكرة لا يعني أن على الروائي أن يُنظّر لها، فمهمة الروائي ليس التنظير للأفكار، "مهمته أن يجعلها قابلة للتداول"، وان تثرى الرواية بحقول معرفية مختلفة، إن مهمة الكتابة الروائية ليست في حجم المعرفة عن الأفكار، بل في تنظيم الأفكار، وللتعرف على الفكرة الروائية هناك ثلاث طرق لكتابة الرواية.
الأولى، بعد أن يتبنى الروائي الفكرة المحورية للرواية، عليه أن يتبنى فكرة أخرى مجاورة لها، قد تكون مناقضة أو معارضة للفكرة المحورية، إذا لايمكن السير في الرواية بفكرة واحده، لأن الوصول إلى حقائق الأمور يتم بالفكرة ونقيضها. وتعلمنا التجربة العملية، أن الفكرتين عليهما أن يتحاورا ضمن نسق العلاقات القائمة. ففصول الرواية التي ستتراوح بين القول لهذه الفكرة والقول للفكرة النقيض، تتطلب مهارة في الإدارة، وكلما تعددت الأفكار وتشعّبت ضمن محور الضبط المنهجي للرواية، كلما تنوعت طرق المهارة الفنية. لا تكتب الرواية بفكرة واحدة، وإن كانت شاملة وغنية، فالحياة بنية جدلية، على الروائي أن يبني بيت روايته على مجموعة من الأفكار.
الثانية، هي التنويع في الأمكنة والأزمنة، إذا لم يكن للفكرة تاريخ ومراجع فهي مقطوعة الجذور، على الروائي أن يرفض الأفكار الصغيرة، فالرواية الحديثة ترفض أكثر مما تقبل. لأن بنية الرواية قائمة على فهم العالم بطريقة مغايرة لما سبق. ولأن الفكرة التي لا تتطور إلى غيرها، لا تصلح للرواية. كتابة الرواية هي اطلاق فكرتها في الأزمنة والأمكنة، هي البحث عن العوالم الخفية، هي التركيب الذي يمنهج الأفكار، هي الخروج على السائد من الكتابة الاعتيادية، كل هذه المهمات وغيرها، تتحقق عندما يكون للرواية أمكنة بسمات كونية. فالرواية فعل تحول، وليس فعلًا يسكن الموجود فقط.
الثالثة، إن حركية الرواية الحديثة تكمن في أسلوبها، "الأسلوب هو ما يجعل من الدلالة بأسرها أمرًا ممكنًا"، الأسلوب الذي يحمل الدلالة الأكثر مباشرة مع الثقافي والاجتماعي والإنساني، وهو أن يكون لها خصوصية أسلوبية في الطرح، وأن تكون لها جمالية تغني تصورنا عن الكيفية التي يتشكّل بها عالمنا "فالأفكار والوقائع هي المادة الخام للفن الروائي"، ويمكن للرواي أن يوزعها بين الشخصيات والأمكنة، وأن يبني بيته الفني بقدرات ما تفكر به الشخصيات، وما تقوده إليه تطورات الأحداث، هذه طريقة كلاسيكية في البناء، الطريقة الحديثة تتم في مسار متعرّج للزمن، وليس في مسار المستقيم أو الدائري، المتعرّج هو الأكثر تغلغلًا في الأبعاد المعلنة والخفية، إنه ذلك البنّاء الذي يبطن أحجاره بمادة تمسك بها دون أن يعلن عنها، مهمته تكمن في "اللحيم" الذي يشد أوصال البنية، فالوقائع اليومية والأحداث هي مجموعة أفعال متناثرة، مهمة الروائي أن يجد الخيط الذي ينسج به هذه المتناثرات ويضمنها النسيج الكلي. فليس للرواية بداية أو نهاية؛ بدايتها تكملة لماسبقها، ونهايتها نافذة لصناعة ضوء يمهّد الطريق للآخر.