محسن مهدي وإنصاف إرث الفارابي الفلسفي

منصة 2021/04/17
...

  د. نادية هناوي
الفلسفة شكل مهمٌ من أشكال التفاعل الإنساني التي بها يتجرد الإنسان من خصوصيات النظر الواقعي التقليدية ليغوص في عمومياتها، متأملا إياها بكليانية عقلانية، محاولا الإحاطة بسطوحها وأعماقها. وبغيته من وراء ذلك هي البحث عن الحقيقة في تجردها ونقائها. وفي خضم الحركة العلميَّة والفكريَّة التي شهدها القرنان الثالث والرابع الهجريان برز اهتمام العرب بعلوم جديدة غير العلوم التي كانوا ضليعين فيها كعلم النحو والفقه والتفسير والبلاغة التي كانت أحق العلوم بالتعلم والمذاكرة، إذ بها يعرف إعجاز كتاب الله تعالى.
ومن العلوم الجديدة التي أسهم نشاط الترجمة في التعرف عليها هي الفلسفة التي كان لها عند الأمم الأخرى مكانة مهمة. هذه الفلسفة التي تفقه فيها الفارابي حتى صار مؤسساً للفلسفة الإسلامية التي تخصص فيها عالم الاجتماع العراقي محسن مهدي مكتشفاً ما للفارابي من دورٍ مهمٍ وكبير، وغائصاً في حيثيات هذا الدور بحثاً وتحقيقاً ونشراً، ساعياً بذلك إلى إنصاف الفارابي.
فهل أنصفَ محسن مهدي الفارابي فعلاً؟ وهل كان له منظور خاص في دراسة أرث الفارابي الفلسفي؟ وهل كان تحقيق رسائل الفارابي عاملاً مساعداً لمحسن مهدي أن يلم بالفلسفة القروسطية؟ وكيف استطاع محسن مهدي أنْ يلمَّ بالمعارف التي جمع فيها الفارابي بين العلوم اللغوية والإنسانية والعلمية ليكون له دوره المهم في الفلسفة الإسلامية؟ وأيهما أثّر في محسن مهدي؟ ابنُ خلدون الذي قاده إلى الفارابي أم الفارابي الذي سحبه من ابن خلدون؟ وأين نضع محسن مهدي في اهتمامه بدراسة الفلسفة القروسطية وتحقيق كتب أعلامها؟ أمع المحققين التقليديين أم مع المفكرين المجددين؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها لا بُدَّ من الوقوف على بعدٍ من أبعاد المنظور الذي به نظر الدكتور محسن مهدي لمنجز الفارابي الفلسفي، وهذا البعد هو (الإنصاف) فقد أنصف محسن مهدي الفارابي في مواضع كثيرة من كتابه (الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية) وفيه ركز على مواطن الابتداع والاجتراح التي بها تميزت فلسفة الفارابي، فلم تكن تقليدا للفلسفة اليونانيَّة. 
 
القراءة ومسؤوليَّة الإنصاف
أول مواطن الإنصاف تأكيده أنَّ ما قدّمه الفارابي من تفكير في طبيعة الإنسان هو إدراك لما طرحه كتاب النواميس لأفلاطون من أسئلة تتعلق بالشرائع، لكنه أيضا تفكير تميز فيه الفارابي، فخصَّ به الفلسفتين فلسفة السياسة والفلسفة المدنية. وقد وجهت الطبيعة البشرية اهتمام الفارابي وجعلته يتلمس هاتين الفلسفتين معتمدا التقصي والتقوى كصفتين طبيعيتين في الإنسان تجعلانه يكتشف المجهول أو يبحث عنه من دون أن يتطلب ذلك منه معرفة المبادئ الأسمى كما أنهما لا يفرضان مسبقا الحكمة التي تحيط بالكل. ومن ثم تكون حالة الجهل عند الإنسان أولية عادة فلا يحصر نفسه في مرتبة يقر فيها بحالة جهله؛ بل إنه يجادل الجميع، باحثا عن ارض صلبة يقف عليها وتصورات أكثر ايجابية ومبادئ أسمى. 
وبسبب اهتمام الفارابي بطبيعة الإنسان، ركز محسن مهدي عليها في كتابه( الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية) معرفا هذه الطبيعة بأنها مصدر سعادة الإنسان وعليها يتوقف كل ما يصنعه على طبيعته ومرتبته في إطار الكل الطبيعي ومدركا العرف لا بوصفه أمرا اعتباطيا بالكامل أو مقبولا ببساطة كطريق افترعه السلف وإنما بوصفه أمرا يحسِّن الطبيعة ويجعلها تامة. ومن هنا رفضت الفلسفة الإسلامية الفكرة القائلة إن الشريعة الإلهية تحظر التحري الحر وفي الحقيقة فأنها تقول بدلا من ذلك إنها مفروضة وقد باشرت تقصيها وفقا لأفضل المناهج المتوفرة ألا هو المنهج المتمثل في الوثوق بما يمكن أن يُرى وليس بما يُقال، والاستناد إلى الطبيعة بدلا من رأي الإسلاف.
ومن الإنصاف أيضا ما أكده د.محسن مهدي من أن الفلسفة الفارابية عقلانية في رؤيتها للإنسان كمفردة تدلل على معنى انطوى فيها بالقوة، موضوعٌ «( كتاب الحروف، ص78) 
وإذ يقسم محسن مهدي المتكلمين إلى فئتين: فئة العقلانيين وفئة التقليديين، فإن الفارابي يقف مع فئة العقلانيين لأن فلسفته المدنية بدأت مسيرتها في سياق جديد يضع للحضارة العربية الإسلامية صورة جديدة في القرن العاشر الميلادي من خلال بعث فلسفة أفلاطون وأرسطو من جديد وتحرير الفلسفة السقراطية من اللاهوت المسيحي. فتأثر بفعله هذا الفكر اليهودي في القرن الثاني عشر على يد موسى بن ميمونيدس والفكر المسيحي اللاتيني في نهاية القرن الثالث عشر على يد البير الأكبر وتوما الاكويني. وبسبب هذا كله صار الفارابي يعرف بأنه رئيس مدن العلم وبقعة الحكمة والمعلم الثاني.
 
الفارابي وفلسفة المدينة
وقد تأسف محسن مهدي لأنَّ فلسفة الفارابي لم تفهم حق الفهم، بل كان يُتعامل معها بجهل حتى أن «رجالاً آخرين عظماء ومشهورين قد أداروا ظهورهم، بطريقتهم، للحياة العامة ولأمتهم عن جهل أو خيبة أمل. وهناك بيننا اليوم من المفكرين من لا يزالون عاجزين عن إدراك معنى عبارة (فلسفة مدنيَّة) ولا يكتبونها أبداً من دون وضعها بين مزدوجين كما لو كانت عديمة الدلالة أو كما لو أنَّ العبارة تمثل بحثاً تافها يقوم به أناس لم يكتشفوا الفلسفة الحق. يمكن لهؤلاء المفكرين أنْ يعلِّمونا أشياء كثيرة غير أنهم لن يعلمونا قط كيف نفكر جيدا في المسائل العامة ولا كيف نحسن مصير أبناء امتنا وكيف نرسي سياسة مدنية ونحافظ عليها» (الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية، ص95)
وعقلانية الفارابي جعلته يبحث في مقولات ما بعد الطبيعة لأرسطو لا أن يختصرها، وبهذا رد محسن مهدي على من قال إن الفارابي لم يأتِ بشيء جديد سوى تلخيص مقولات أرسطو. وعزز رأيه بالفروق بين الفارابي وأرسطو من ناحية الجهة التي يبحثان فيها، وهو ما نجده مفصلا في كتاب( الحروف) الذي حققه محسن مهدي، وعنه قال:» إن كتاب الحروف هو تفسير لكتاب أرسطو طاليس في ما بعد الطبيعة ولا يعني هذا أن الكتابين يتفقان في جميع الموضوعات التي ينظران فيها بل هناك فروق» ص33
وقد رأى الفارابي أن كتاب( ما بعد الطبيعة) مقدم لجميع أجزاء المنطق ومقدم لجميع أجزاء الفلسفة التي لا تنظر في شيء غير المقولات لكن الفارابي تعدى بها إلى التعاليم والعلم الطبيعي والعلم المدني كما أن الفارابي نظر في ألفاظ ومعان مشهورة في لغات عصور من غير لغة أرسطو طاليس وعصره وملته هذا فضلا عن تباين فحوى كتاب (الحروف) للفارابي عن فحوى كتاب (ما بعد الطبيعة) ومضمونه وأغراض أرسطو طاليس فيه وعن ذلك يقول محسن مهدي:» أن الفارابي لم يكن من الشراح المستعبَدين للنص الذي يقومون بشرحه وأنه كان له رأي خاص في غرض ما بعد الطبيعة. وهذا هو السبب الرئيس للاختلاف بين الكتابين» ص42 
وما بحثه الفارابي في مصنفاته المختلفة من علوم تتصدر اهتمامات الفكر الإسلامي كالنحو والفقه واللاهوت، ساعدته فيها معارفه التي اكتسبها من رحلاته إلى بلدان عديدة وبعيدة. فكانت كتاباته بمثابة رسائل موجهة إلى قومه الذين لم يغادروا الوطن. 
وأما القول بأنَّ الفارابي بنى مدينة حاكى فيها مدينة أفلاطون في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) فإنَّ عقلانية الفارابي في (كتاب الملة) تفنده. وقد حقق محسن مهدي هذا الكتاب، وفيه وجد أن تشبيه المدينة بالبدن الحي الكامل توكيد لهوية الفارابي الأصيلة. وعن قول الفارابي إن أعضاء البدن الحي لا تتعاون لمجرد تحقيق غاية مشتركة، بل لها مراتب مختلفة، قال مهدي:» والملة ووضعها وصلة أقسام المدينة ومراتبها بنظائرها من أقسام العالم ومراتبها والقوى النفسانية ومراتبها وأعضاء بدن الإنسان ومراتبها تذكر القارئ بكتابي الفارابي في العلم المدني هما مبادئ( آراء أهل المدينة الفاضلة) و(السياسة المدنية).. أما المدينة الفاضلة والسياسة المدنية فتعطي الآراء والأفعال وكأنها تشرع ملة ما أو تعطي مثالا يجب أن ينظر إليه من يريد وضع ملة ما في أمة ما أو في زمان ما» (كتاب الملة، ص11).