ظلت بغداد دوماً مدينة موحية بتفاصيل كثيرة تساعد على تكوين سرديات روائيَّة كثيرة تأخذ من واقعها المحتدم وتنهل من ماضيها القريب الدامي والحضاري معاً. وفي هذه الإطلالة نتعايش مع جزءٍ من المنظومة السرديَّة عن هذه المدينة التي تضج بالتفاصيل بسبب من سخونة الماضي الذي لم يمت، والحاضر المثير لتفاصيل أخرى تتعدى المدونات الشائهة والضعيفة وتلامس ذلك الاحتدام الضاري داخل المجتمع البغدادي.
يتعايش غائب طعمة فرمان مع بغداد في كل رواياته بشكل وبآخر, إذ نجده في روايته الأولى (النخلة والجيران) يتحرك ضمن حي شعبي يعاني سكانه الكثير من انعدام الخدمات العامة (تأثير الأمطار في المحلة) واختلاف الطباع بين متسلطٍ مثل مصطفى، وطيبة مرهون السايس، وقلق سليمة الخبازة الضائعة بين حياة تتدنى يومياً وسط ضغط المرابي مصطفى الدلال وأحلامها القليلة.
وإذا كان جو الرواية يعيش جو الحرب العالمية الثانية حيث تلتهب الأسعار ويكون طلب العيش متعباً للطبقة التي اتخذها فرمان أنموذجاً, طبقة المسحوقين وتجار الخردة, فإنَّ تبدلاً عاماً لا بُدَّ أنْ ينتهي وتتغير ملامح المحلة الشعبية البغدادية التي تجري فيها الأحداث، فقد بيعت طولة الحاج أحمد آغا (مكان تربية الخيول) وتفرق سكانها وبيع بيت سليمة الخبازة وجرت مياه جديدة في أرض محلة المربعة وراحت النخلة إيذاناً بتباعد الجيران في وقت التغيير المادي الذي حصل للمحلة ولبغداد عموماً خلال الحرب العالميَّة الثانية وبعدها, وبذلك كان التغيير هنا مكانياً وسياسياً عاماً لم يتغير فيه الكثير عند سكان المحلة البغداديَّة الذين تباعدوا في وقت قتل فيه صاحب أبو البايسكلات بيد شقي من الشقاة.
إنَّ رباعية فرمان البغدادية: (النخلة والجيران، خمسة أصوات، المخاض، القربان), تبدو بغداد فيها هي البطلة رغم تغير الشخوص والأحداث, ذلك أنها المهاد المعماري الحضاري للشخوص على اختلاف ثقافاتهم ووسائل تعبيرهم ومشكلاتهم.
بغداد تنمو عند فرمان ويتم فيها القتل واستباحة المثل في (القربان) لكنها تتغير وسط بناء داخلي فردي ديمقراطي في (خمسة أصوات) حيث المكنة الحضارية وثرثرة المثقفين واحتدامات حيواتهم الداخلية المنفصلة عن حواراتهم, وبغداد في (المخاض) صورة معاناة كبيرة من أجل تغيير سياسي واجتماعي وحضاري يتم فيها ببطء.
إنَّ رواية (خمسة أصوات) التي تقدم لوناً حضارياً من مقاومة المثقفين اليساريين لأزماتهم الحياتيَّة الداخليَّة تماهياً مع الأزمة العامة التي كانوا يعيشونها مع نظام الحكم الملكي.
ورغم أنَّ المقهى العام والمشرب الليلي كانا الملاذ اليومي لهم إلا أنَّ هناك تمايزاً واضحاً في تحركات (الخمسة) العامة مع الآخرين.
كانت بغداد يومها تعيش تحت وطأة احتدام سياسي بين ما يفترض أنهم قوى الشعب وبين الطبقة الحاكمة من رجال السياسة القدامى الذين ثاروا على الحكم العثماني بمساعدة الحليفة الكبرى (بريطانيا) ورجال السياسة الشباب الذين انقسموا الى فريقين, منهم من ارتبط بالطبقة الحاكمة ارتباطاً وثيقاً مثل نديم الباججي ورشدي الجلبي وضياء جعفر وسواهم, ومنهم من ساير الموجات الجديدة في الاحتجاج على صورة ديمقراطية مشوهة يرتبط فيها القصر بالإقطاع المؤازر برجال السياسة التقليديين الذي شاركوا الملك المؤسس الحكم, متجاوزين فترة الملك غازي القلقة التي تم فيها الانقلاب العسكري الأول بمعرفته عام 1936, وصولاً الى فترة وصاية الأمير عبد الاله, ودخول العراق الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور بإرادة بريطانيَّة متعاونة مع الساسة التقليديين الذين يتزعمهم السياسي نوري السعيد الذي ربط مصالح العراق بتحالف بريطانيا –-فرنسا –الاتحاد السوفيتي ثم الولايات المتحدة الأميركيَّة.
وإذا كانت الرواية العراقيَّة لم تستثمر فترة الملك غازي وحياته المشحونة بالتغيرات وصراعات القصر مع الانكليز وتأسيسه إذاعة قصر الزهور, ولمعانه فيها, وعلاقته الطيبة بأهم الشعراء الشعبيين، الملا عبود الكرخي ومجموعة من الشباب الكرد والعرب, فإنها اتخذت منهجاً درامياً أوسع من الارتباط بشخصية واحدة وعصرها.
كانت (النخلة والجيران) مهاداً بغدادياً لتأثيرات الحرب على المناخ الشعبي العام وضعف قدرات الطبقات الفقيرة على العيش على الكفاف وانتشار التهريب والجريمة والابتزاز (سرقة دار نشمية الخبازة) يقابله نوعٌ من المقاومة السياسيَّة للإصلاحيين والماركسيين وذوي الياقات البيض أمثال جواد سليم وجميل حمودي وعدنان رؤوف من المستقلين الشباب, فضلاً عن طلبة الجامعات الذين كانوا يحضرون منتدياتهم أمثال: محسن مهدي وحسين الهنداوي وسواهما.
في هذا الجو ظهرت (جريدة الأهالي) للحزب الوطني الديمقراطي بزعامة السياسي المثالي الذي كان يملك أرضاً شاسعة باللزمة مع الساسة الآخرين في منطقة الصويرة – الدبوني (تراجع مذكرات أمين خالص) لكنه كان مقاوماً للتوجهات غير الديمقراطيَّة للقيادة التقليديَّة للدولة, إذ عمل بعض المثقفين فيها أمثال غائب طعمة فرمان وعبد المجيد الونداوي وحسين مردان (مصححاً) وعبد الملك نوري محرراً ثقافياً.
خلال ذلك كتب فرمان (خمسة أصوات) أو استوحاها من هذه الفترة, وكتب شاكر جابر بعده روايته (الأيام المضيئة) التي نشرت عام 1960 وتستوحي تفاصيلها من ثورة طلبة الصيدلة عام 1952 وما تبعها من انتفاضة شعبيَّة, بينما صور موفق خضر في روايته الأولى (المدينة تحتضن الرجال) انتفاضة 1956. لم تتوقف علاقة الرواية بالتحولات الثقافية داخل بغداد الخمسينيات، فرواية خضير عبد الأمير (رموز عصريَّة) التي تصور البيئة الشعبيَّة البغداديَّة وهي تتحرك نحو التغيير الاجتماعي تقابلها الرواية الأخيرة له التي صدرت تحت عنوان (حب وحرب) عام 2021 وصورت حياة بغداد الشعبية خلال مختلف الحروب والانقلابات, لكنَّ أعمال عبد الأمير الأخرى وجدت أصداءً اجتماعيَّة كثيرة, إذ وصفت التحولات الشعبيَّة البغداديَّة في العادات والتقاليد ونشوء صناعة السينما, وانتشار أماكن الفساد وسط أجواء وتحولات أخرى تمت في الخمسينيات من القرن الماضي.إنَّ ذلك الاحتدام الدرامي في الرواية العراقيَّة التي نشرت في بغداد قبيل وبعد 14 تموز الفاصلة تقابله بمستوى مواجه رواية (الرجع البعيد) التي أرخت للمجتمع البغدادي القديم وهو يواجه رياح التغيير والصدام الدامي بين اليمين واليسار, وهي تجربة عملت عليها الرواية العراقيَّة بتفاصيل كثيرة وعنوانات متعددة لا سبيل لتغطيتها في مقالة واحدة.