كيف ساعد الاتحاد السوفييتي اليابان في القضاء على الفيروس المميت؟

بانوراما 2021/04/18
...

  اولغ ييغوروف
  ترجمة: شيماء ميران
مع مطلع الستينيَّات، وعلى الرغم من الحرب الباردة، اكتشف عالم أميركي أكثر لقاح فعال ضد شلل الاطفال، وتم اختباره في الاتحاد السوفييتي. بعد خروج مسيرات احتجاجية للأمهات الخائفات على اولادهن، ناشدت الحكومة اليابانية موسكو لمساعدتها.
وأظهرت نشرات الاخبار اليابانية عام 1961 طوابير الانتظار الطويلة امام مراكز التلقيح، تصطف فيها الامهات اللواتي يشعرن بالقلق، وهن يحملن اطفالهن الرضع على اذرعهن والاطفال الاكبر سنا إلى جانب آبائهم، بينما تقوم مجموعة من موظفي المركز الصحي بتسجيل اسماء الذين حصلوا على اللقاح، ولم يكن اللقاح على شكل ابرة بل لقاح فموي، فيعطى الدواء للاطفال بالملاعق ليتم بلعه ويعطيهم مناعة من شلل الاطفال، المعروف بأنه مرض خطير يؤثر في المادة السنجابية للحبل الشوكي وقد يتسبب بشلل في الاطراف، وحتى الموت ايضا.
 
 
 ولطالما تم انتظار اللقاح في اليابان لفترة طويلة، إذ تم استيراد 13 مليون جرعة من الاتحاد السوفييتي في صيف العام 1961. سبقتها تظاهرات لعدة اشهر للأمهات الغاضبات الخائفات على اولادهنَّ، وحاصرنَّ وزارة الصحة والرعاية، إذ كانت الحكومة مترددة جدا من شراء اللقاح من موسكو.
لكن كيف وجد الاتحاد السوفييتي نفسه في مقدمة المكافحين لمرض شلل الاطفال؟.
 
مرض دولي
كان شلل الاطفال، او الشلل الشوكي الطفولي، معروفا للبشرية لفترة طويلة. وكان دائما يصيب الاطفال. في تموز من العام 1961، ذكرت صحيفة أكهاتا اليابانية نقلا عن إحدى تلك الامهات: «يولد الطفل سالما ويصبح معاقا بين ليلة وضحاها. فهل هناك مرض اكثر رعبا؟».
اتخذ مرض شلل الاطفال، بعد الحرب العالمية الثانية وتنامي المدن وتزايد الكثافة السكانية، ابعادا خطيرة، واصبح تفشيه يتكرر كثيرا ليصيب المزيد من الاشخاص. ولم يكن الاتحاد السوفييتي بمنـأى عن ذلك، فخلال العام 1950 سجلت 2500 حالة، وبحلول العام 1958 كان هناك اكثر من 22ألف حالة. 
 
لقاحان اثنان
في العام 1955، أنشأ الاتحاد السوفييتي معهدا لبحوث شلل الأطفال، وترأسه ميخائيل تشوماكوف للفترة ما بين (1909- 1993)، وهو افضل عالم فيروسات سوفييتي وله خبرة واسعة. ومع ذلك لم يكن تشوماكوف من عمل على تطوير اللقاح بل زميله الاميركي. ولكي نكون اكثر دقة، فقد طور العالمان الاميركيان جوناس سالك وألبرت سابين نوعين مختلفين من اللقاح. إذ استخدم سالك الخلايا الميتة لشلل الاطفال، بينما استخدم سابين وزميلته هيلاري كوبروسكي الفيروس الحي لشلل الاطفال. وكانت هناك حاجة لاتخاذ اجراءات عاجلة. 
واعتمدت الحكومة الاميركية على لقاح شلل الاطفال (الميت) لجوناس سالك، وكان هذا النوع الذي تم اختباره وشراؤه في جميع انحاء العالم ومن بينها اليابان. وجرّب الاتحاد السوفييتي ايضا نظرية سالك لكنها لم تنل رضاه. واستذكر (بيوتر) ابن ميخائيل تشوماكوف، وهو عالم ايضا: «وأصبح من الواضح ان لقــــــــــــاح سالك لم يكن مناسبا لحملة شاملة في البلاد. لقد اثبت انه باهظ الثمن، وكان يحتاج جرعتين على الاقل والتأثير بعيدا عن نسبة 100 % }.
 
حلوى مضادة للفيروسات
وعلى الرغم من أجواء الحرب الباردة والمواجهات السياسية بين اميركا والاتحاد السوفييتي التي كانت سائدة خلال تلك الحقبة، كان تعاون علماء الدولتين مثمرا باستمرار، إذ سافر ميخائيل تشوماكوف إلى اميركا وحافظ على التواصل مع جوناس سالك وألبرت سابين. فقد أعطى الاخير لتشوماكوف السلالات الضرورية لإنتاج اللقاح الحي. وكما يستذكر بيوتر تشوماكوف: «تم تمريرها جميعا من دون شكليات، وقد أعاد والداي السلالات بدقة حرفية».
وتمَّ تقديم اللقاح الحي، الذي يعتمد على طريقة ألبرت سابين في الاتحاد السوفييتي وتجريبه بنجاح، وكان العامل في هذا هو الشكل الذي اختاره تشوماكوف للقاح، ولهذا تقرر إنتاجه كحلويات، وحتى لا يخاف الاطفال من حقنهم بالابرة، واجريت التجارب العملية بألوان مختلفة. وفي العام 1959، اُستخدم اللقاح الحي لوقف التفشي الحاد لشلل الاطفال بسرعة في جمهوريات البلطيق. وبالتالي، تحول الاتحاد السوفييتي تماما إلى اللقاح الحي وتم القضاء على شلل الاطفال في البلاد.
اشار سابين مازحا في مراسلاته إلى تشوماكوف كونه طبيبا عاما لتنظيمه حملة سريعة وشاملة كهذه ضد شلل الاطفال.
 
أثناء ذلك في اليابان
بحلول أواخر الخمسينيات، لم يكن الوضع في اليابان مع شلل الاطفال خطيرا كما هو حال عدة دول اخرى، إذ كانت تسجل 1500- 3000 سنويا. ولهذا السبب أولت الحكومة القليل من الاهتمام لمكافحة المرض، وكان يعتقد ان جرعات لقاح سالك التي تُستورد من اميركا وكندا (بكميات متواضعة) ستكون كافية لحل المشكلة.
وبحسب ماساو كوبو، احد منظمي حملة مكافحة الشلل الشوكي الطفولي: «تمَّ إعلامنا، أنه يؤثر فقط في ألف شخص او ألفين أو اكثر، فهل يستحق إثارة الضجة حوله؟»، فشل العديد من الأطباء الذين اتصل بهم الآباء لتشخيص شلل الأطفال في الوقت المناسب، ما أدى إلى وفاة الاطفال او إعاقتهم.
 
موجة تظاهرات
في العام 1960، تزايدت أعداد الاصابات المكتشفة بشلل الاطفال في اليابان بشدة ووصلت الى 5600 اصابة 80 بالمئة منهم من الاطفال. ولم تكن هناك جرعات كافية من لقاح سالك للقيام بحملة تلقيح واسعة النطاق، والاكثر من ذلك، فان فاعليته كان مدعاة للتساؤل. في هذه الاثناء لم تحقق دراسات اللقاح الخاصة باليابان نجاحا، فاندلعت التظاهرات في انحاء البلاد، وحينها تم اختبار لقاح ألبرت سابين الحي خارج الاتحاد السوفييتي واثبت فاعليته.
طالب أهالي الأطفال المرضى بأن يتمُّ استيراد اللقاح الحي، لكن السلطات لم تستعجل لتلبية تلك المطالب. فلم يكن المسؤولون واثقين من ان اللقاح سيكون فعالا مع الصينيين، ولم تكن الحكومة راغبة بالتعاون مع الاتحاد السوفييتي، وظلت اليابان في ذلك الوقت حليفا مخلصا لاميركا، واكتفت الشركات الدوائية بعقودها مع شركات اميركا الشمالية.
 
نقطة تحول
مع ذلك، تشكلت حركة وطنية واسعة النطاق في العام 1961 ضمت الاهالي والعديد من الاطباء والنشطاء السياسيين. طالبوا جميعهم بشراء اللقاح من الاتحاد السوفييتي وتنفيذ حملة تلقيح شاملة. وكما ذكرت الباحثة إيزومي نيشيزاوا عن الحركة في بحثها، فان الناس انتقلوا تدريجيا من فكرة «اللقاح لطفلي» إلى «اللقاح لجميع الاطفال في البلاد»، ما مكّن النشطاء المختلفين في السابق من توحيد قواهم وتشكيل جبهة موحدة.
وكتبت صحيفة أكهاتا عن مطالب الاهالي: «نطالب بتطبيق اللقاح الحي بالسرعة الممكنة!، هذا الفايروس غير المرئي يطارد الاطفال يوميا، أليس لديكم اطفال؟، ألم يتم اجراء البحث المطلوب في الخارج فعلا؟، ليس بسبب استياء الشركات الدوائية، أليس كذلك؟». وإلى جانب التظاهرات اجرى ماساو كوبو عالم من جمعية أطباء اليابان بحثا ايضا، إذ قام بزيارة إلى موسكو استغرقت شهرين، أثبت خلالها امكانية الاعتماد على لقاحات سابين، وتصنيعها في الاتحاد السوفييتي وبأسعار اقل مقارنة مع الدول الاخرى. ولم يتبق للحكومة إلا اسبابا قليلة امام استيرادها.
حتى نفذت هذه الاسباب جميعها في 19 من حزيران عام 1961، حين اقتحمت تظاهرة الامهات مبنى وزارة الصحة والرعاية في طوكيو، ولم تتمكن الشرطة من إيقافهنَّ، وقدمنَّ مطالبهنَّ إلى المسؤولين مباشرة. وفي 22 حزيران أذعنت الوزارة للمطالب، واعلنت ان الاتحاد السوفييتي سيجهز اليابان بثلاثة عشر مليون جرعة من اللقاح الحي. وتم تنظيم التسليمات بسرعة عبر وسيط وهي شركة الايسكرا اليابانية. وكتب الصحفي ميخائيل يفيموف، رئيس مكتب وكالة نوفوستي برس في اليابان لاكثر من عشر سنوات: «لا شك ان كبار السن سيتذكرون ترحيب الحشود اليابانية بالخطوط الجوية الروسية إيروفلوت في مطار طوكيو هانيدا الدولي».
أعطى برنامج التلقيح نتائج سريعة، وبحلول الخريف تلاشى تفشي الوباء في اليابان، وبعد عدة سنوات والعديد من حملات التلقيح اللاحقة تم القضاء على المرض فعلا في البلاد، فبدون جهود مكتشف اللقاح ألبرت سابين، فضلا عن ميخائيل تشوماكوف لما اكتسب اللقاح شعبيته في انحاء العالم، فيجب الامتنان لهما، وكذلك الشكر لآلاف الامهات والاطباء والنشطاء اليابانيين الذي طلبوا من حكومتهم بأن تترك السياسات جانبا من اجل مستقبل اطفالهم.
 
عن موقع راشيا بياند هيدلاينز