رمزيَّة الواقع في رواية «من الظل»

ثقافة 2021/04/18
...

  رشا الربيعي
يطل علينا (دميان لوبو) من نافذة غير واقعية (من الظل) متناولاً الواقع بصورة تبدو غرائبية ولكنها انعكاس حقيقي للواقع الذي نعيشه. فضاء غرائبي وشخصيات واقعية ومواضيع سياسية واجتماعية وحتى علمية ينسجها معاً بإتقان الكاتب الاسباني (خوان خوسيه مياس) في روايته (من الظل). 
والتي صدرت بترجمتها العربية عام 2018 عن دار المتوسط – ايطاليا بترجمة المصري أحمد عبد اللطيف. خوان خوسيه مياسكاتب وصحافي أسباني، يعد أحد أشهر الروائيين المعاصرين الأسبان، ولد عام 1946 في مدينة فالنسيا الأسبانية، عاش في العاصمة مدريد ودرس الفلسفة والآداب في جامعة كوم بلوتس، وهو أحد كتاب مايسمى (بجيل 68) أي الجيل الذهبي الذي أسهم بتحديث الرواية الأسبانية، ويشير هذا المسمى إلى أهم كتاب الأدب الأسباني المعاصر مثل إنريكيبيلا ماتاس وخابيير مارياس. نشرت أولى أعماله الروائية في عام 1974 بعنوان (العقل هو الظلال) الفائزة بجائزة سيسامو عام 1975، ومن أشهر أعماله (إنها تتخيل)، (الأشياء تنادينا)، (هكذا كانت الوحدة)، ونال على الأخيرة جائزة نادال الإسبانية عام 1990، (امرأتان في براغ) الفائزة بجائزة الربيع عام 2002، كما فاز بجوائز اخرى مثل بلانيتا وجائزة الدولة، وترجمت أعماله لأكثر من عشرين لغة حول العالم، يلقبه النقّاد الأسبان بمايسترو الغرابة لما تحتويه أعماله من غرائبية ساحرة.  تدور أحداث الرواية حول حياة رجل اربعيني في العاصمة الأسبانية مدريد يدعى دميان لوبو، نشأ وسط أسرته غير المرحبة به، بعد ان حلت أخته الصينية المتبناة محله قبل عامين من قدومه الفجائي إلى الحياة، لم ينل دميان من التعليم سوى درجة بسيطة في التدريب المهني في قسم الكهرباء، دخل السلك الوظيفي وهو لا يزال في الثامنة عشرة من عمره واكتسب مهاراته من العمل اليومي،إذ أهلته خبرته فيما بعد للإشراف على المهندسين الشباب، الذين يمتلكون المعرفة النظرية على حساب الخبرة والمعرفة العملية والأخيرة تحديداً هي ما تتطلبه الآلات والمكائن الكهربائية، إذ كان يخطط أنشطة فرق العمل ويحدّد المهامَّ ويراقب حالة المنشآت ويقوم بطلبيات المواد والعدد، ويقدّر تكلفة الصيانة، وبعدما غزت فكرة الاستهلاكية و "الرمي المبرمّج" حسب وصف بطل الرواية، أصبحت مهاراته اليدوية وقدراته التقنية لا فائدة ترجى منهما في عالم اختار أن يرمي الأشياء التي تتلف بدلاً من تصليحها، لتحل محلها أشياء جديدة. قضى دميان لوبو سنوات من عمره مع الفئران منسياً في قبو مبنى المؤسسة وبعد خمسة وعشرين عاما له في الوظيفة، أستغني عنه وتم طرده وهو في عمر الثالثة والأربعين مع تعويض مالي كافٍ وبَدَل بطالة لمدة عامين، وعلق لوبو على ذلك في برنامجه التلفزيوني المفترض "أن يتم رفضك وأنت في عمر الأربعين فهذا يعني الذهاب إلى العدم". سرق دميان دبّوساً زهيد الثمن من مجمّع تجاري "كمحاولة للانتقام من النظام الذي رفضه وهو في عمر الأربعين" حسب تبريره للسرقة، ليقوده الدبّوس المسروق للاختباء في داخل خزانة هرباً من رجل الأمن الذي كان يتتبعه، ليحل بعدها ضيفاً شبحياً دائمياً في داخل غرفة نوم أحد المنازل ومن هنا تبدأ الرواية. تمثّل مرحلة الطفولة الحاضنة الأولى للإنسان ونقطة شروعه إلى ملعب الحياة، فإهمال الطفل في هذه المرحلة العمرية المهمة قد يشكّل فجوة لا يصلحها حتى الزمن، بل ربّما تزداد هذه الفجوة اتساعاً كلّما مضى الإنسان في حياته.
دميان لوبو أم سيرخيو أوكان أم العديد؟
يعمد لوبو إلى محو شخصيته لا شعورياً ليخلق بذلك فضاءً افتراضياً "البلاتوه"، واشخاصا افتراضيين "سيرخيو أوكان"، وجمهورا افتراضيا يتابعه بشغف، يرصد حركاته ويحفظ كلماته معوضاً بذلك عن غياب اهتمام أسرتهِ بهِ المتمثّلة بأبويّه، اللذين وجها كل اهتمامهما ورعايتهما لأخته الصينية "المتبناة" فيعاني بذلك دميان من عدم معرفته بنفسه، ومن ثم فقد الإيمان بها والأمان بالأسرة والمجتمع ككل، وفي محاولة منه للتعويض عن ضياع وجوده القصدي من قبل ذويه، يلتجئ لوبو لخلق شخصيات افتراضية ومكانة افتراضية له تحظى بشهرة وأن كانت مبتذلة، تعوضه عن ذلك الإقصاء القصدي من الحياة "الأسرة".
يهيمن الفضاء الغرائبي على الرواية بصورة عامة، ولكننا رغم ذلك نجد الواقع يتجسد أمامنا عبر مجموعة اسقاطات داخل المتن السردي معتمداً بذلك على الرمزية أو الإشارة، فمثلاً وصفه لقطع الأثاث من ايكيا "الشركة السويدية" ما هي سوى رمزية للصورة النمطية للمجتمعات التي فرضتها الرأسمالية، فنرى جميع البيوت تتشابه في قطع اثاثها ليلغى بذلك تدريجياً ذوق المرء الشخصي وخياراته الذاتية في تنسيق فردوسه الخاص "منزله"، وآنذاك يغدو الفرد وممتلكاته مجرد نسخ متكررة ومتشابهة من أقرانه. وفيما يخص بطل الرواية نلاحظ بأنه كان مهتماً فقط بقراءة كتيبات الاستخدام للأجهزة الكهربائية على خلاف كتب الأدب عامة، أو كما أشار لأكثر من مرة عن مقته لقراءة الأدب الروسي خصوصاً وروايات القرن التاسع عشر، أراد الكاتب من ذلك أن يشير لنجاح الأنظمة الرأسمالية بجعل الإنسان عبارة عن مجرد رقم مادي في زمن الاستهلاك، وكيف نجحت الآلات والتكنولوجيا فيما بعد بالسيطرة على حيواتنا الخاصة لتبرمجنا كأي آلة ميكانيكية، مبعدة أيانا تدريجياً عن عوالمنا الذاتية لتشغلنا حتى عن انفسنا التي تعتبر اهتمام الأدب الأول واشتغاله الخاص.
ولِمَ الصين تحديداً؟.
 وفي ذات السياق يعلق بطل "من الظل" على موضوعة تبني أخته الصينية حينما سأله الإعلامي إنياكي جابيلوندو: ولِمَ الصين تحديداً؟
(- كانت فترة تسود فيها القوّة الشرائية، وكانت الموضة هي التضامن مع العالم الثالث.
- لكن الصين هي ثاني قوّة في العالم.
- ربّما لم تكن كذلك في تلك الفترة، لا أعرف. كان مفخرة.
- ولأنه لم يكن في مخططاتهما إنجاب طفل ثانٍ، لأن الصينية كانت قد أشبعت غريزة الأمومة والأبوة لديهما، استقبلاني كأني أنا الطفل المُتبنى
- هل كانا يسيآن معاملتك؟ سأل جابيلوندو
- فلنقل كأنهما يسديان لي معروفاً، كأنهما أخذاني من ملجأ، كأني قادم من الخارج، من مكان بعيد جداً
- أفكر أحيانا أنهما يُفضّلان أختي عليّ، لأنها نتاج صفقة اقتصادية
- طبيعة الرأسمالية – قال جابيلوندو).
كما ولا يخلو المقطع المقتبس أعلاه من اسقاطات سياسية مهمة عن توجه حكومات أوروبا الغربية لضم الأنظمة الشيوعية متمثّلة بالصين الشعبية تحت جناح الرأسمالية.
ولان ميّاس من كتّاب الرواية المعاصرة الأسبانية كما أشرت مسبقاً لم يغب عنه تناول مرض العصر الرائج "الشهرة" وهوس التايم لاين وإعلاميي المنصات الإلكترونية الذين لا يهمهم المحتوى الرصين بقدر عدد المشاهدات، فتناول ذلك بجرأة عالية عبر وصفه للقنوات التلفزيونية التي تقدم محتوى بائساً وجمهورها بـ "الزبالة" كما وأشار للأثر السلبي الذي تخلّفه تلك البرامج والقنوات في نفوس المشاهدين. تضاهي رمزية الخزانة عند خوان خوسيه مياس في روايته من الظل النيرفانا في رواية سد هارتا للكاتب الألماني هرمان هسه.
فكلاهما تمثّلان عزلة الإنسان المستلب الإرادة بعد ان غدا مجرد ارقام احصائية في سجلات برامج أجهزة الحكومات الرأسمالية، فهل هنالك من احتمالية لهروب ابناء عصرنا إلى التجارب الصوفية للخلاص من ماديات الوجود إلى حيث تسمو الروح وتحلّق بعيداً مع بطل رواية خوان خوسيه مياس (مثل بقاء سمكة الحنكليس في ثغرة بحرية، أو مثل المكوث في فقاعة، العالم كان يتحرك، الأرض كانت تطفو في الفضاء، وأنا كنت أترنح كأني داخل كبسولة، مثل رائد فضاء.
- ولم تشعر باختناق؟
- لا على العكس، كنت أكثر حرية من أي وقت مضى، كأن هذه الخزانة مركز الكون، كأن العالم يتمدّد من خلالها).
وهل سيخلق رواد عالمنا المادي كلاًّ له خرانته اللامرئية بعيداً عن هوس الشهرة وضوضاء مواقع التواصل الاجتماعي وارقام الترند العالمي وعدد المشاهدات المخيفة، ربّما؟.