سلمان گاصد في نص ترك فراشه ونام على الطاولة

ثقافة 2021/04/20
...

 ناجح المعموري 
نشر د. سلمان گاصد نصا رثائياً عن الشاعر احمد راشد ثاني في الاتحاد الثقافي 23 شباط 2012، وتميز هذا النص بنوع ساخن من الرثاء وقوة في الندب والحزن المشحون بالتوتر وإحساس بقسوة الفجيعة المتوقعة، لكنها ذات صدمة غير محتملة، لان المرثي كما يبدو من نص گاصد قريب إليه ومتجاور وإياه، وبين الاثنين خفي ومعلن، همس وصائب، ويكفي الإبداع موحداً لهما، وأعتقد بأن أحد مكونات نص گاصد هو الحنين لأيام كانت مع الغائب، وهذا له دلالة كبيرة لمثقف مثل سلمان جاء الى أبو ظبي ووجد مبدعاً بمستوى احمد راشد الذي كان ـ كما اعتقد ـ حضناً لگاصد وباباً مفتوحاً لم يغلق وراءه أبداً.
ونظراً لما يتمتع به د.سلمان گاصد من ثقافة متنوعة في الأنواع الأدبية وأيضا تكونه الأكاديمي المعروف عن السرد المنفتح بطبيعته على الأجناس الأخرى ومانح لها ما يمكنها من الحضور، خصوصاً بعد أن صار السرد احد ملامح أو مكونات الشعرية الحديثة. رثاء گاصد لاحمد راشد كاشف عن قراءة لكل ما نشره الشاعر قبلاً، لأنه ـ گاصد ـ وظف القليل منه وألمح له ليغني نصه ويعطي لما كتب طاقة البقاء والمثول والتجاور مع ذاكرة الثقافة في الإمارات وراء شاعر خورفكان والمديفي. 
ومثلما لعب المكان بذاكرة احمد راشد، فعل ذلك مع الكاصد الذي يدرك جيداً ما يعنيه المكان ليس في السرد كما عرف بل في كل الأجناس الأدبية. واعتقد بأن التجاور الثقافي والإبداعي مع راشد ثاني فاعل جوهري ومساعد واضح في انتاج النص الذي كتبه د.سلمان، ووجدت بأن هذا النص توفر على العناصر الفنية/ البنائية الخاصة بشعر الرثاء والمناحات الذي اقترحته الحضارة السومرية أول مرة في التاريخ الإنساني، وبسبب اتساع ظاهرة الموت لشيوع الكوارث الطبيعية وموت الآلهة الشباب. واهم مميزات الشعر العراقي القديم هو الرثاء والفجيعة وأكثر ما تحفظه الذاكرة والمدونات القديمة المراثي الشهيرة الخاصة بالمدن العراقية. وأبرز عناصر شعر الرثاء الفنية معرفة المرثي ومكوناته وخصائصه، كذلك إدراك وظيفته/ أو وظائفه، مع معايشة له في مكانه ويلعب المكان دائماً دوراً جوهرياً، وخصوصا في رثاء المدن. ودائماً ما يكون رثاء الأصدقاء متوتراً، وصادقاً ومشحوناً بالعواطف الحزينة، كما أنها كاشفة عن قلق الكائن وذعره أمام الموت، هذه النهاية التي دائماً ما تضع الكائن أمام مصيره الفردي، كما كان لموت الطبيعة الدوري ومعاودة انبعاثها ثانية تحفيز للانتباه أمام كارثة الموت التي لم تكن متماثلة بين البشر والآلهة في المراثي القديمة «وانطلاقاً من موت الآلهة وبعثهم الموازي في رمزية الموت الطبيعة، وبعثها. وقد وصلتنا العديد من المراثي عن موت دموزي/ تموز، وبكاء انانا/ عشتار على مصيره، ثم بعثه مع خضرة الربيع.. وبالتوازي مع تساؤل الإنسان عن مصيره بعد الموت/ قاسم الشواف/ ديوان الأساطير/الكتاب الرابع/ ص12 .
عنونة المرئية التي كتبها الگاصد مستلة من نص للشاعر احمد راشد ثاني، هذا ما توقعته، لأني قرأت نصوصاً للشاعر وتوفرت لي معلومات فنية عن شعريته العالية.
وهذه العنونة شفافة بغرابتها «الفتى الذي ترك فراشه على الطاولة» وتضيء اللامعقول والمخفي، فالنص يتحدث عن الفتى المندحر أمام الموت، بمعنى لم يكن عاجزاً من شيخوخة، بل هو قوي وعاش صراعاً مع الموت. واعتقد بأن الشاعر أكثر المبدعين مواجهة مع الموت لفترة طويلة ونصوصه الشعرية وكتاباته المقالية وسيرة حياته «على الباب موجة» تضمنت المساحات عن قلقه الانطولوجي وترقبه لمحو الموت للحياة وتعطيلها:
غادر بصمت ... 
في يوم ودعته الريح باردة بلا غيوم، الغيوم 
ظلت في البيت. 
والفراشة حلقت بعيداً نحو 
ماء البحر الأزرق الشفيف 
هناك عند «خورفكان»: ما بين البحر والجبل 
رقد رقدته الأخيرة 
جاور الأحبة الذين سحروه بحكاياتهم 
الغامضة، وبتنقلهم بين القرى والمدن 
الساحلية والصحراء  
هناك سوف يجد لذة التأمل. وهناك 
يأتي الليل ويأخذه 
حيث ظلال الجبل 
وصوت هدير البحر 
هناك ستبكي الشمعة دماً 
هناك سيجد يديه فارغتين/ الاتحاد الثقافي 23 شباط 2012 لم ترافق / جزازه،
لم ترافق الغيوم جنازة، لأنها ظلت في البيت/ بيت الشاعر، بمعنى سيادة الحزن/ السواد على فضاء البيت بسبب الفجيعة. الجو بارد هذا ما يحتاج فضاء الأرواح المفجوع لتهدئة فوران أعماق الناس الحزينة. حلت الكارثة وابتعدت الفراشة بعيداً، إنها رمز دال على الغياب/ الشاعر، دائماً ما تقترن الفراشة مع النار/ الشمعة واحتراقها يعني الموت، ذهبت الفراشة/ رمز دال على الشاعر وربما روحه الهاربة من الحياة والمتوجهة نحو الخلاص/ البحر.
كشف نص گاصد عودة الشاعر الى خورفكان محمولاً على أكتاف أصدقاء الشعر واختار قبراً له: ما بين البحر والجبل، رقد رقدته الأخيرة، والمثير في نص گاصد إشارته الى أن احمد راشد دفن في مكانه الأول «خورفكان» التي تحدث عنها طويلاً في سرديات ذاكرة طفولته وفتوته وشبابه في كتابه «على الباب موجة» أي العلاقة الشعرية الخفية بين المكان والبحر، ووجدت في قراءتي لهذه السرديات بأن عنونة مرويات سيرته تنطوي على بلاغة انزياحية أضاءت اتصالاً رمزياً جنسياً بين موجة البحر/ الماء والباب الرمز الأنثوي واشتباك الرمزين الماء، الباب، له دلالة اتصالية تمثيلية.
وظف گاصد عناصر جوهرية في البناءات الفنية لنصوص الشاعر مثل الليل/ البحر/ الصحراء/ الجبل، وهي مكونات مركزية في معجمه الشعري والسردي، مثلما هي ـ أيضا ـ من يوميات المعيش منذ لحظة العلاقة الأولى المدركة للمحيط وما موجود فيه إشارة گاصد الى عودة الشاعر محمولاً الى خورفكان ليختار قبره بين الجبل والبحر. الجبل الذي فاضت قيمه ودلالته في سردياته كذلك تزاحمت أحزان الشاعر عليه.
وهو يراه متآكلاً بالتدريج ليتحول شارعاً مكسواً بالإسفلت المثير في مرثية گاصد، انشغالها بالمهيمنات المستمرة بحضورها زمناً طويلاً في حياة الشاعر واعني بها المقبرة التي رآها طفلاً وهي تنمو مثل كائن حي، حتى تجاورت مع البيوت.
فتح خزانة شفاهيات «خورفكان» و«المديفي» ورآها مزخرفة، محلقة عالية، وبعيداً لتحول مكاناً إنسانيا وليس خاصاً، هكذا هي أمكنة المبدعين، تستيقظ وتظل هكذا ولا تموت. المكان حي وخالد، حتى لو زاحمته المدينية مثلما حصل مع: خورفكان «في سرديات احمد راشد» على الباب موجة»، ومثلما تعرفنا على جيكور السياب وخان الخليلي، اكتشفنا صدفة «خورفكان» واتخذت دورها مع الأمكنة التي سجلها الإبداع وتجوهرت بالمرويات. كلاهما باقٍ، احمد راشد وخورفكان.
التقط گاصد مألوف العلاقة الثقافية وشحن فيه التراجيديا، تحول لديه من مروية تقليدية، تسجل لقاء أسبوعيا، هو الزمن الذي كان الشاعر يشعل فيه النار بالسيرة.
احمد دم البحر يبكي 
أيها البحر جاورك الفتى ، جاورك من انشد 
لك أعذب القصائد وأرخ لك أجمل الحكايات 
أيها البحر ... اِبكِ فتى بكاكَ في كلماته، بل ضحك 
معك يوم تجشأت أعماقك عند قدميه 
أيها ... أبكِ شاعراً مشى عطشا اليك وهو يجر البئر 
الى الغرق في لجتك 
أيها البحر اِبكِ رجلا رجع إليك عند الجبل الرضيع الذي تركته الصحراء. 
 
الشاعر صوت البحر ولسان البئر وهواء الجبل وحافظ أسرارهم في خزانة «على الباب موجة» وهم ندبوا غيابه فجأة، ولوحوا لقلب البئر الصامت عن الغناء. بسبب كل هذه الفجيعة بكى دم البحر، البحر حلم ويوتوبيا وحقيقة، ليس معقولا في الشعر ومألوفا.
الأسطورة في نصوص الشاعر، أسطورته الخاصة به والتي لا تشبه غيرها. ومن الغرائبيات المعروفة به في مرثية گاصد هي ان دم البحر يبكي غياب راشد ثاني، لان الشاعر بكى البحر كثيراً في نصوصه، ابتسم، وضحك، اسمع إيقاع ضحكته للبحر عندما تجشأ عند قدمي الشاعر الذي غامر كثيراً لحظة العطش، وهو يسحب بما تبقى من قوة بجسده البئر ـ حتماً ليست بئر بيته الأولى في خورفكان ـ الذي هو رمز الصحراء المضاد ودلالة الحياة، سحبه نحو الغرق بالبحر، هذه شعرية متسامية، ابتكرها گاصد، وهو يتصور صديقه المبدع.
لم يكتفِ بتمجيد الغائب والاستمرار بنسج أسطورة مستمرة، ومختلفة عن التي كانت من قبل موت الشاعر، رحلة أخيرة صعبة، انتظرها واكتشفها وسط الظلمة، هو عاشق الليل ودوّن كتاب الليل وسط حلم متوتر. رجع الى الجبل الذي ما زال متوجاً بالطفولة ويتزود بالشعر من صدر الصحراء.
أخيراً نثر گاصد نجومه وراء الشارع، وأطلق إيقاعاته الهادئة، الراجفة لتحط وسط كتاب الليل: اِبكِ رجلاً تساءل يوماً «ماذا لو رجعنا الى البيت من المدينة، وكان ذلك المساء ضغينة مستترة.. إنها ليست ضغينة يا احمد، لقد رجعت فعلاً عند المساء من المدينة الى البيت الأول لتشرب من البئر الأولى عند جبلك
الرضيع.
احمد، ترك الشاعر فراشه على الطاولة، والرجل، احمد .. نام الشاعر في أرجوحة القبر تحت الشجرة عند الجبل، وظل الشجرة ينحني على الطاولة.