نازك الملائكة مفكرةً

ثقافة 2021/04/20
...

لؤي حمزة عباس
في كتابها (التجزيئية في المجتمع العربي) الصادر في بيروت 1974، تقدم نازك الملائكة جانباً مهماً من جوانب معرفتها النقدية وهي ترصد ظاهرة اجتماعية عامة تسيطر على الفكر العربي والحياة العربية، ظاهرة التجزيئية التي ما يزال أثرها فاعلا في حياتنا حتى اليوم "إذ نجد الفرد إجمالا يفصل ما لا ينفصل فيقع لذلك في تناقضات واضحة ومشكلات ما كان ليصاب بها لولا هذه التجزئة في ما لا ينبغي أن يجزأ"، إنها واحدة من مشكلات الفكر العربي المعاصر وهو يتجنب التعامل مع الظواهر على تنوعها تعاملا كليا تعود فيه النتائج إلى الأسباب، ولا تفهم المشكلة إلا بمراجعة مقدماتها التي تكون أحياناً غامضة وبعيدة. وربما كانت من أهم دراسات الكتاب بعد الدراسة التي حمل الكتاب عنوانها، دراسة "المرأة بين الطرفين السلبية والأخلاق"، إذ تبدو التجزيئية واضحة شديدة التأثير في فكرة الحرية، "فإن الناس يحسبون أن من الممكن أن يكون الرجل حرّاً كلَّ الحرية بينما المرأة أسيرة القيود"، وتضيف "إن عبودية المرأة لابد أن تؤثر في حرية الرجل"، يوضح المثال كيف يمكن أن تتكامل النظرة إلى مشكلة حرية المرأة في المجتمع العربي لتكون نظراً في الحرية نفسها، فالتجزيئية تكتفي بمعالجة جزء من المشكلة بعد أن تقتطعه عنوةً متوهمةً إنه المشكلة، والتكاملية تعمل على ربطه بشبكة من الأسباب والمقدمات، كلما توطدت الأواصر بينهما ازدادت معرفتنا بطبيعة المشكلة التي نعمل على دراستها. 
ترصد نازك الملائكة من خلال التجزيئية مجموعة من القضايا الاجتماعية، والقومية، والأدبية، وهي أبواب الكتاب التي توزعت بينها دراساته الإحدى عشرة، وما يلفت النظر في الكتاب، إلى جانب أهمية فرضيته الأساس، هو اهتمام الملائكة بما لا يتوقع أن توليه اهتمامها، وهو الأغنية العراقية التي تفرد لها دراستين هما (شخصية الآخرين في الأغاني العراقية) المنجزة في العام 1957 و (العطش والتعطش في الأغاني العراقية) المنجزة في العام 1959، وقد كُتبت الدراستان في الفترة التي أنشغلت فيها المؤلفة بإنجاز ديوانها الثالث (قرارة الموجة، 1957)، وكتابها النقدي الأول (قضايا الشعر المعاصر، 1965)، مما يشير إلى طبيعة التفكير التكاملية التي ميّزت حقل التفكير النقدي للملائكة، فليس ثمة ماهو ثانوي في مناقشة مشكلات مجتمعنا، وليس ثمة ما يُتردد في النظر إليه نظرا نقدياً في سبيل فهم المجتمع والوقوف على مشكلات إنسانه، هكذا يكون بمقدور الناقدة أن توسع من منظور دراستها للائم والعذول والواشي والنمام كما تقدمهم الأغنية العراقية، مثلما يكون بمقدورها أن تمضي أبعد في دراساتها فتربط في نظرة تكاملية بين شخصية الغريم وتجسداتها في الحياة العامة في العراق، ليقود ذلك إلى توسيع البحث في سوسيولوجيا الأغنية لفهم عواطف العذول أيضاً، "وإنه لمؤسف حقاً أن العذول لا يغني كما يغني المحب"، لتفتح نازك الملائكة عبر دراستيها عن الأغنية، مجال معرفتها النقدية التي لم تتحدد بدراسة الشعر وقضاياه، وهو إسهام مبكر في معالجة قضايا ثقافية، لم تواصله الناقدة بكل أسف.