المستنكف ضميرياً

ثقافة 2021/04/20
...

 عبدالزهرة زكي
يكتسب شاعرٌ ما قيمة مضافة تعزز قيمته الشعرية أو قد تصنع له ظروف معينة سمعة شعرية أكبر مما يصنعه الشعر له وذلك حينما تكون قيمته الشعرية متواضعة. هذا ما أشرنا إليه في مقال الأربعاء الماضية باعتمادنا مثال الشاعر الراحل حسين مردان. لكن هنا سنقف عند تجربة غربية في مجال آخر تكرست معه قيمة مضافة لشاعر وذلك في إطار لافت.
 
ففي مطلع القرن العشرين عاش شاعر إنكليزي، هو إريك باري ويلفريد تشابيلو (7 أكتوبر 1890 - 28 نوفمبر 1957). حظي إصداره الشعري الأول، وقد نُشر في أوائل عام 1916، بتقدير نسبي، لكن تشابيلو صنع حياةً استثنائية أسبغت عليه بقيمة هي أكبر من التقدير النقدي، بحيث غطت تلك الحياة على كلّ عمله في الشعر الذي لا يذكر منه بعد ذلك سوى نيله جائزة عن قصيدة قصيرة، وهذا طبعاً ليس حكماً على القيمة الشعرية للرجل وهي قيمة التي لم أتوثق منها تماماً.
حاولتُ كثيراً الاستفسار من زملاء وأساتذة أكثر مني اهتماماً واطلاعاً وذلك بقصد الحصول على نصوص شعرية له أو في الأقل التوفر على آراء نقدية موثوقة عنه، وذلك بعد ما تحرّيت من جانبي عبر وسائل ومصادر مختلفة ومتنوعة فكان من المؤسف أن أخفقت في ذلك، فقد كان بعض تلك مصادر يريد التعريف به شخصياً وبعضها الآخر كان عاماً يعرّف بالشعر الإنكليزي في تلك السنوات. وفي كل هذه المصادر، أو في معظمها، يجري ذكر هذا الشاعر إنما بموجب ما اختار من مصير وما صنعه لنفسه من حياةٍ وليس بالرجوع إلى عمله الشعري.
لقد صدر ديوانه في غمرة الحرب العالمية الأولى، وفي العام نفسه الذي أعفي فيه من الخدمة العسكرية بوصفه (مستنكفاً ضميرياً) عن الحرب، لكن بعد أشهر قليلة على هذا القرار عادت السلطات فألغت إعفاءه واعتقلته على أنه رافض للخدمة العسكرية. لقد اتهم حينها بجريمتي (الجبن والخيانة). 
وفي اعتقاله تعرض لمعاملة قاسية، وهذا ساعد في تأمين جبهة ثقافية واجتماعية مهمة تبنت مسؤولية الدفاع عنه والمطالبة باحترام قناعاته وبإطلاق سراحه وإعفائه. كان من أبرز المتصدرين لهذه الجبهة الفيلسوف برتراند رسل والكاتب برنارد شو والشاعر دبليو بي ييتس فضلا عن النائب الليبرالي فيليب موريل الذي ركز ضوءاً كافياً أمام مجلس العموم البريطاني للتعريف بمعاناة الشاعر وبحقه في الامتناع عن الحرب.
في العديد من المصادر والمراجع يجري تعريف (المستنكف ضميرياً) على أنه "فرد يدّعي الحقَّ في رفض أداء الخدمة العسكرية بموجب حرية الفكر أو الضمير أو الدين". 
لكن عبر التاريخ جرى مرات كثيرة الحكمُ بإعدام أو سجن كثير من هؤلاء أو فرض عقوبات مختلفة عليهم، وذلك كلما فُهمت تلك المعتقدات والقناعات على أنها أعمال ومواقف تتعارض مع قوانين وتقاليد مجتمعاتهم أو حكومات بلدانهم. وهذا ما سنقف عنده في مقال الأسبوع المقبل بتفصيل تاريخي وثقافي أوسع.
لم يكن تشابيلو جباناً في امتناعه عن الجندية والحرب. كان خوفه، كما جرى التعبير عنه، يأتي من الخشية على سلامة ضميره واستقراره الروحي. 
لا تعبأ بذلك السياسة التي تصنع الحروب، السياسة تتدرع أمام المجتمع بالقيم البطولية، وتمجد مبادئ التضحية في إطار ما تدعم به رغبتها ونزوعها للحرب. تلك هي محنة البشر ذوي الحساسية الخاصة في الحروب، الحساسية المقترنة بيقظة الضمير، وما أكثر ما تتحطم الأرواح وتتلوث الضمائر في الانسياق لمنطق الحرب غير المحكوم بأي 
ضمير. 
يبدو هذا الرفض والتمنع على الجندية والحرب قريب الشبه من موقف إنساني آخر يتخذه بعض الناس ممن يمتنعون عن أكل المنتجات الحيوانية مكتفين بكل ما هو نباتي لإدامة حياتهم ولصيانة ضمائرهم بموجب ما يفكرون ويعتقدون. وهذه شجاعة تأخذ منحى آخر في الحرب والحياة وليست جبناً أو سلوكاً متميعاً يفضل السياسيون وصم الممتنعين عن القتل به. 
سيق ويلفريد تشابيلو إلى الخدمة العسكرية مرغماً، وحينما رفض ارتداء الملابس الكاكي عمدت السلطات إلى إرغامة على خلع ملابسه المدنية وارتداء ملابس الجندية التي خلعها حالما أتيحت له الفرصة. لقد بقي عارياً. وجرى الاحتفاظ له بصورة نادرة (صادفتها على الانترنيت). 
في هذه الصورة يبدو تشابيلو وقد لف ببطانية عسكرية شدت من الوسط بحزام، وقد التقطها له عريف كان مأموراً بنقله إلى محكمة عسكرية لمواجهة القضاء، كان العريف يريد النكاية بالشاعر والسخرية منه، وقد وجدت الصورة حينذاك طريقَها للنشر في صحيفة ديلي سكيتش. في تلك المحاكمة جرى الحكم على تشابيلو بالسجن لستة أشهر.
تولى الفيلسوف برتراند رسل، وهو من أبرز دعاة السلام، مسؤوليةَ التنبيه على مشكلة الشاعر في رفضه الحرب. بينما كان تشابيلو يؤكد من خلال محاميه أنه على استعداد للقيام بأعمال ذات أهمية وطنية إنما خارج أحكام قانون الخدمة العسكرية. فقد كان رسل يقول في معرض دفاعه عن قناعة الشاعر إنه، أي الشاعر، وأمثاله" لا اعتراض عندهم على الخدمة الوطنية، ولكن بشرط ألا تكون معنية بشكل مباشر بالحرب".
لم يكمل تشابيلو محكوميته، فقد أطلق سراحه بعد اشتداد الضغوط التي كان وراءها الفيلسوف رسل. وبدلا من الجندية فقد وجد طريقه لعمل مدني بديل في مزرعة تبرعت بها سيدة بريطانية وذلك لاستقبال (المستنكفين ضميرياً) لتقديم خدمة وطنية مدنية بديلة لفترة الجندية التي يرفضونها.
بقي الشاعر الانكليزي، بعد ذلك، مكرِّساً حضوره الأهم من خلال موقفه الرافض لمبدأ الحرب. لم تجد معاناته مع الجندية والحرب ورفضه إياها طريقاً إلى كتابته الشعرية كما توضح ذلك بعض المصادر. لقد كتب تشابيلو ما بعد الحرب في (موضوعات كلاسيكية) شعراً ومقالات، ووُصف من قبل بعض العروض على أنه" فخم في الروعة الرومانسية، من حيث الأسلوب والمضمون". وفي حياته كتبت مجلة الأدب البريطانية عنه قائلة:"إن السيد تشابيلو يمكن أن يكتب بأسلوب ساحر عن الأشياء الصغيرة"، مشيرة إلى ما هو لافت بصدد تجربته وذلك بالقول "من النادر أن تجد شاعراً يكتب أثناء الحرب من دون أن يمسسها"، كما فعل تشابيلو.