التجريب

ثقافة 2021/04/20
...

  محمد صابر عبيد
تندرج فعاليّة التجريب في إطار الانطلاق نحو مقصد وهدف غير واضح المعالم تماماً بحيث يتوجّب على الفاعل القيام بجملة فعاليّات للوصول إلى هذا الهدف، وإذا ما عدنا إلى التركيب اللغوي الصرفيّ للكلمة سنجد أنها مصدر للفعل "جرّب: يجرّبُ"، وهذا الفعل في معناه اللغوي البسيط يعني اختيار سبيل معين من دون آخر والخوض فيه لتحقيق مقصد ما، إذ توجد مجموعة سبل للوصول إلى هذا المقصد يجرّب الفاعل أحدها ثمّ قد ينتقل إلى آخر حين لا يحقق الأول الهدف، وربما يطول التجريب أو يقصر بحسب ذكاء الاختيار وحسن التعامل مع كل سبيل فضلا عن العزيمة والحماسة وغيرها، وقد يكون الحظ عاملا جوهرياً داخل أفق التجريب الواسع أيضاً.
لذا يدخل فعل التجريب في مراحل متعدّدة من العمل والمغامرة والكشف والاكتشاف وإعادة النظر حتّى يكتسب فاعليّة حضوره وقوّة إنجازه، وهي مراحل متشابكة تفضي الواحدة منها إلى الأخرى على نحو سلس ومتفاهم ومتداخل وتخضع لرؤية تشكيليّة واحدة، ولا بدّ من تشغيل منهج معيّن تتّضح فيه هذه الرؤية التجريبيّة كي تكون مراحل العمل دقيقة في أعمالها وتحوّلاتها ومنجزاتها، في السبيل نحو تكوّن الصيغة النهائيّة التي ينتهي إليها التجريب وتأليفها في معادلة تتوافق فيها الرؤية مع المنهج وتصل إلى أعلى درجات التوافق.
يحصل هذا الأمر في أشكال التجريب كافّة ولاسيّما حين تحوّلَ إلى "التجريب" إلى مصطلح نقديّ كثير التداول؛ وقد ذهب به المعنى الاصطلاحيّ نحو طاقة التجديد والتحديث، فحين نقرأ مصطلح "التجريب" في أيّ حقل من حقول المعرفة النظريّة والإجرائيّة تتوجّه أنظارنا فوراً حول قدرة النصّ أو الظاهرة أو الأديب على التوغّل في مسار تجديديّ أو تحديثيّ بارز ونوعيّ، غير أنّ المعنى اللغويّ المرتبط باختيار أحد السبل بناءً على معطيات وأسس يقلّل من زخم المعنى التجديديّ أو التحديثيّ على هذا الصعيد، ولا بأس هنا أن نستذكر ما قاله "بيكاسو" حول هذا الموضوع: "أنا لا أجرّب أنا أجد" لنفهم حقيقة أنّ التجريب مرحلة في السبيل نحو الإيجاد، وثّمة فرق شاسع بين التجريب والإيجاد يكون فيه الإيجاد أعلى مراحل الإبداع والخلق.
ينبري هنا السؤال الأهمّ المتعلّق بثنائية "التجريب والإيجاد" فمتى يصل المجرّب إلى مرحلة الإيجاد؟، وإلى متى يبقى التجريب قائماً ونافذ المفعول؟، وهل له زمن محدّد إذا لم يصل فيه مرحلة الإيجاد بحيث يسقط ويندرج في عِداد الأعمال التي لا قيمة لها؟، وأسئلة أخرى كثيرة يمكن أن تُثار في هذا السياق كي يحصل المفهوم على الدرجة القطعيّة في الوضوح، إذ يكون مقصد التجريب على هذا النحو هو بلوغ مرحلة الإيجاد،إذ تكفّ فعاليّة التجريب عن العمل وتبدأ أعمال الإيجاد بالإنجاز النوعيّ المباشر، لأنّ الاستمرار بالتجريب من دون بلوغ مرحلة الإيجاد يُفقِدُ التجريب معناه، فالتجريب ليس سوى سبيل للوصول إلى مرحلة الإيجاد وهي المرحلة الإبداعيّة القصوى في رحلة 
التجريب.
ترتفع مقولة بيكاسو "أنا لا أجرّب أنا أجد" إلى طبقة عليا من النرجسيّة الإبداعيّة الخلاقة لحظة الشعور بعبور مرحلة التجريب والتفوّق عليها، فالتجريب عنده على هذا النحو ينطوي على احتماليّة قد تذهب بالفعل الإبداعيّ في أحد طرفيه إلى الإخفاق، مثلما يحمل الطرف الثاني المواجه احتمال النجاح الكامل والمطلق، بالمعنى الذي لا يليق فيه التجريب بكبار المبدعين الخلاقين مثل بيكاسو وأضرابه لأنّهم لا يشتغلون على هذا الاحتمال الثنائيّ في النجاح أو الإخفاق، إذ هم ينجحون دائماً وبتطوّر مذهل لا يتوقّف عند حدّ؛ بحكم الموهبة والخبرة والإحساس النرجسيّ العام بالتفوّق، لذا فهم يعملون داخل فضاء الإيجاد بأعلى درجات الثقة التي قد تتجاوز أحياناً المنطق المعقول إلى مرتبة من مراتب النبوّة، مع الوعي الكامل بأنّ مرحلة التجريب لا تليق بهذه الفئة من كبار المبدعين كما عبّر عن ذلك بيكاسو بوضوح مقصود وبارز، فنفي التجريب في مقولته تعني على نحو بالغ أنّ التجريب مرحلة أوليّة لا يمكن للمبدع أن يصل إلى مرتبة الكبار من دون أن يتجاوزها، وهو حين ينتهي بـ"الإيجاد" إنّما يقصد أعلى مراحل الإبداع والخلق الفنيّ الجماليّ إذ تكتمل صورة الفنان وفنّه في شكلها المثاليّ المطلوب.
وإذاً لا بدّ من النظر إلى مصطلح "التجريب" في ضوء هذه المعرفة الاصطلاحيّة التي لا تجعل منه مقصداً بل مرحلة في العبور نحو الهدف، وعلى الرغم من أنّ الفضاء الاصطلاحيّ له تقاليده بعيداً عن الفضاء الاجتماعيّ والثقافيّ العام لمعنى اللفظ، غير أنّ مصطلح "التجريب" هنا يتّخذ له حدوداً خاصّة يكون فيها مصطلحاً وسيطاً للعبور نحو مصطلح "الإيجاد"، فهو المبتغى والمقصد والمطلوب حين يتعلّق الأمر بالحالة الإبداعيّة التي يتفاعل فيها المبدع مع محيطه الإبداعيّ، وذلك للوصول إلى لحظة القبض الحاسمة على أيقونة الإبداع وقد تحقّقتْ في أبلغ صورها، وابتعدت كثيراً عن منطقة "التجريب" بوصفها مرحلة أوليّة مهمة جداً لا يمكن الاستغناء عنها أو إهمالها أو تجاهلها، ومن ثمّ تجوهر الفعل الإبداعيّ في المسافة الفاصلة بين منطقة التجريب ومنطقة الإيجاد إذ عبّر عنها بيكاسو بكلّ دقّة ومعرفة وحضور ووعي.