سدة الهنديَّة.. التاريخ وذاكرة الماء

ريبورتاج 2021/04/21
...

 علي لفتة
كان الماء يغمر ثلاثة ارباع اراضي العراق، ما جعل مساحات الخضرة فيه تغطي كل ارجائه، حتى سمي ارض السواد لكثرة النخيل فيه وكثرة خضرته، حتى قيل ان اتصال بساتين العراق من الشمال الى الجنوب، جعل صوت الديك يُسمع في وقت واحد في كل العراق.
ولان الماء وفير وسريع الجريان، كانت هناك حاجة الى سدود ونواظم ومشاريع اروائية، فضلا عن الحاجة الى مشاريع لشق انهر ليصل الماء الى اراض تحتاج الى الماء لتسقى المساحات الزراعية، وما عرف بـ (الذنايب)، وكان كل ذلك متاحا حتى منتصف القرن الماضي، ولكن ما حصل في القرن الثامن عشر، حسب ما اكده الباحث والخبير بشأن المياه في العراق المهندس حسن الشريفي، انه عندما بدأ تنفيذ تلك المشاريع يوم كان الحاكم العثماني هو الذي يحتل العراق، ما اتاح للأثرياء والسلاطين تنفيذ العديد من المشاريع الاروائية ومنها ما قام به ثري هندي في مطلع هذا القرن واسمه (آصف الدولة) حين رأى أراضي شاسعة تقع بين ثلاث محافظات هي بابل والنجف وكربلاء، فقام بتنفيذ مشروع شق نهر يبدأ من نهر الفرات من مدينة المسيب التابعة لمحافظة بابل وتقع على بعد 50كم جنوب بغداد الحلة و50كم شمال كربلاء، لينتهي العمل به بعد مرور سنوات ويطلق عليه شط (الهندية) نسبة الى الثري الهندي، ما جعل الاراضي تشهد نهضة زراعية كبيرة تنوّعت فيها الزراعة لكل المحاصيل والفواكه على مر السنين.
 
نواظم وسدود
لكن هذا النهر كما يقول الخبير في المياه والمستشار المهندس حسن الشريفي قد تسبب بانحسار مياه نهر الحلة الذي يعد فرعا من فروع الفرات، لان المياه قد تم توجيهها الى نهر الهندية الجديد، وكانت هناك حاجة لبناء سدة على نهر الهندية لتنظيم عملية توزيع المياه ولذا قام السلطان عبدي باشا ببناء سد الفرات وكذلك بناء ناظم من الآجر وكان ذلك عام 1830 وقد تم تهديمه عام 1854 ليبني السلطان عمر باشا سدا عظيما من التراب والحطب، ليتحول نهر الهندية الى نهر الفرات الاصلي ليشق نهر الحلة تماما بعد عام من ذلك، واخذت حكومة اسطنبول بالأمر فاستدعت من فرنسا المهندس المعروف المسيو ( شو ندير فر) الذي وصل إلى بغداد في خريف عام 1889 وأخذ يتجول دارسا مجرى الفرات ليضع مخططا لبناء سدة كان عرضها على شكل جناحين مائلين مع فتحة في الوسط طولها (17) قدما، وقد حشر لبناء هذه السدة الكثير من أبناء العشائر وغيرهم واستعملت السخرة، وكان ذلك في زمن السلطان عبد الحميد الذي شيدت في عهده منارة قريبة من الجناح الأيسر للسدة من اجل تخليد تاريخ البناء في عهده، وكتب عليها تاريخ الانتهاء من البناء مع تمجيد للسلطان عبد الحميد، وقد أقيم في تشرين الأول من عام 1890 احتفال بافتتاح السدة وحضره الوالي (سري باشا) ومعه عبد الرحمن الكيلاني ورفعت أفندي الجادرجي وأعيان بغداد وأعيان الحلة وكربلاء، ومضى الشريفي بقوله ان الطابوق الذي بنيت به السدة استخرج كله من خرائب بابل واستخدم الديناميت من أجل ذلك، اذ كان يوضع في جدران قصور (بختنصر) لنسفها واستخلاص الطابوق منها وقد تصدعت السدة المذكورة في عام 1903 وبقيت الحالة سيئة في شط الحلة إلى أن أكمل (ويلكوكس) انشاء سدة الهندية في عام 1913.
 
سدة الهنديَّة الثانية
لكن السدة التي بناها المهندس الفرنسي (شو ندير فر) عام 1890 على نهر الفرات أخذت تتهدم بمرور الأيام حتى إذا حل عام 1905 أصبحت الحالة في شط الحلة أشد مما كانت عليه قبل انشاء السدة وانقطعت المياه في موسم الصيهود عن أراضي الحلة والديوانية والدغارة، وقال الشريفي: «في شهر كانون الأول 1908 وصل المهندس البريطاني المعروف (وليم ويلكوكس) إلى بغداد، اذ عينته الحكومة العثمانية مستشارا للري في العراق وبعد دراسة الوضع اقترح بناء سدة ذات أبواب حديدية على بعد 800 متر من شمال سدة (شو ندير فر)، وأخذت الحكومة بهذا الاقتراح وعهدت ببناء السدة إلى شركة (جاكسون) البريطانية وباشرت الشركة العمل في شباط 1911، اذ بنيت السدة على اليابسة في الجهة الشرقية من مجرى النهر واستخدم فيها زهاء 3500 عامل عراقي، وجرى العمل فيها بدقة عجيبة، ويعود الفضل للشركة والمهندس ببنائها بتلك الضخامة في وضع إداري متفسخ، وبلغت تكاليف السدة ربع مليون ليرة وهذا مبلغ زهيد ويمكن أن نعزو ذلك إلى رخص أجور العمل من جهة ونزاهة المشرفين على العمل من جهة
أخرى».
 واكد الشريفي انه في 12 كانون الأول 1913 جرى الاحتفال بافتتاح السدة بحضور الوالي بالوكالة محمد فاضل باشا الداغستاني وقناصل السفارات وكبار الموظفين والأعيان، وكان حفلا مهيبا، ألقى فيه المستر هويتلي مندوب الشركة خطابا بالفرنسية، فأعقبه الداغستاني بخطاب آخر بالتركية، وامسك بعدها بالمسحاة وازال شيئا من التراب ثم سارع 20 عاملا لإزالة التراب في خمس دقائق لتتدفق المياه نحو السدة.